بقلم : فالح حسون الدراجي ..
بعد رصد ومتابعة طويلة، نجحت القوات الصهيونية في اغتيال قائد حركة حماس، ورئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، بعد اشتباك مسلح بين خلية من (كتائب القسام) وفصيل من كتيبة 410 الاسرائيلية في منطقة تل السلطان في قطاع غزة..
وإذا كان هناك اختلاف حول شخصية السنوار، ومفاهيمه وأفكاره ومواقفه وأدائه السياسي، وممارساته الأمنية مذ كان مسؤولاً عن الجهاز الأمني لحركة حماس (مجد) قبل أربعين عاماً، وقسوته المفرطة في التعامل مع من يشتبه بولائه للحركة، وحتى يوم السابع من اكتوبر 2023 ، وما جرى في هذا اليوم التاريخي من أحداث هامة وخطيرة غيرت وستغير خارطة المنطقة جغرافياً وتاريخياً، بل ربما ستأتي بنتائج أكبر من التغيير في الخارطة !!
أقول إذا كان هناك خلاف حول شخصية الرجل، فإن صموده وبسالته الفذة، التي توج بها فصل حياته الأخير، قد وحدت جميع المختلفين برأي واحد حول بطولته الفائقة، وجعلت الأمر متفقاً عليه فلسطينياً وعربياً وعالمياً، بحيث لم يعد ثمة مجال لأن يختلف اثنان حول عظمة المشهد الذي رسمه السنوار بدمه في اليوم الأخير من حياته، سواء أكان هذان (الإثنان) يحبانه أو يكرهانه.. فالحقيقة الناصعة التي اضطرت حكومة الصهاينة الى إعلانها كراهة، تمثلت بتلك المقاومة النوعية الباسلة التي أبداها يحيى السنوار ( ابو إبراهيم) في التصدي لجنود الاحتلال، والتي لم تنته -المقاومة- حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ..
لقد كان بامكان الرجل أن يستسلم ويرفع الراية البيضاء، فيخرج سالماً وينتهي الأمر، مثلما فعل غيره في مواقف مماثلة عديدة من قبل، لكن السنوار ظل يقاتل حتى وهو ينزف آخر قطرات دمه..بل قاومهم وقاتلهم – اضطراراً – بتلك (العصا) التي لم يبق غيرها معه، بعد أن أصيب اصابة بالغة في يده، ونفد كل عتاده، وجلس على تلك الأريكة ليلتقط أنفاسه، لكن القوة العسكرية الصهيونية التي أطلقت عليه قذيفة من إحدى دباباتها، لم تكتف بهذه القذيفة ولا بعدد الرمانات اليدوية التي رمتها نحوه، ولا بكل الرشاشات والبنادق التي وجهتها صوبه إنما أدخلت عليه في الغرفة التي كان فيها، طائرة صغيرة بدون طيار، لتجهز عليه بشكل تام، لكن (المقاوم) البطل يحيى السنوار، الذي أصيبت يده إصابة بليغة، ونفد عتاده، التقط من الأرض ( عصا ) خشبية كانت قريبة منه، ورمى بها صوب الطائرة الصهيونية الصغيرة التي دخلت عليه من النافذة..
وهنا قد يقول البعض: وماذا ستفعل هذه العصا بمواجهة طائرة مسلحة؟
والجواب: كلنا يعلم، وحتماً أن السنوار قبلنا يعلم، أن هذه العصا لن تؤثر (مادياً) على الطائرة، او على جنود الاحتلال، فهي عصا صغيرة لا تهش ولا تنش، لكن الرجل أراد أن يختم حياته بهذا المشهد الدرامي الوجداني، ويرسل عبر هذه العصا رسالة لكل المقاومين في فلسطين والعالم، ولكل المتصدين للطغيان والظلم في هذا الكوكب، مفادها: قاوموا أيها الأحرار.. قاوموا بالصواريخ، والطائرات المسيرة، وبالمدافع، والبنادق، والمسدسات، والسكاكين، قاوموهم بالحجر إن تعذر عليكم السلاح، أو بمثل هذه العصا البائسة إن لم يعد معكم حتى ذلك الحجر الذي تقاومون به الطغاة والقتلة المجرمين..
إن السنوار لم يرم هذه العصا ليسقط بها الطائرة، فهو يدرك أنها مواجهة غير متكافئة – الم يكن الإمام الحسين يعلم أن معركته مع جيش يزيد غير متكافئة، لكنه مضى فيها رغم علمه بما سيحصل، فمضى في مشواره واستشهد (مادياً) لكنه انتصر معنوياً وتاريخياً ورسالياً ؟!
ومثل الحسين قاوم كذلك جيفارا وهوشي منه، ومانديلا وغيرهم من الثوار الميامين، فخسروا حياتهم، وأضاعوا زهرات شبابهم في المقابر والسجون، لكنهم ربحوا وطنياً وإنسانياً وتاريخياً، وتحررت بلدانهم بفضل تلك التضحيات العظيمة.. وها هو السنوار يسير على ذات طريق الحرية الذي سبقه اليه سيد المقاومة حسن نصر الله وغيره..
إذن كان السنوار يدرك أن
هذه العصا ستؤثر تأثيراً إيجابياً فاعلاً وكبيراً ، وسيظهر هذا التأثير في معنويات الثوار، وفي صميم البنية التربوية والأخلاقية والوطنية للمقاومة ضد الاحتلال ..
كما ستكون- قصة هذه العصا – مثالاً ثورياً ناصعاً أمام الاجيال الفلسطينية، والعربية، والإنسانية ايضاً، وستغدو هذه العصا (كلمة السر) في أبجدية انتفاضات وثورات الشعوب المضطهدة، وفي مواجهة الطغاة، بل ستكون الدرس(التاريخي) الاول في مدارس ومناهج وتعاليم الثوار في العالم..
نعم، فهذه العصا التي رماها السنوار، وشاهدها العالم كله في الفيديو الذي صوره وبثه الصهاينة انفسهم، لم تكن ( عصا ) عادية قط، إنما كانت عصا (أخرى)، عصا ذات معنى آخر، ومضمون آخر، ولون آخر .. رمزياً وثورياً وتربوياً.
والسنوار – بهذه العصا – أعطانا دليلاً لايقبل الجدل على حتمية انتصار المقاومة، وضرب لنا مثالاً مضاءً بنور الحق والعدل والتضحية والإباء. فالنموذج (السنواري) في ملحمة استشهاده لايمكن أن يمر علينا اليوم وغداً وبعد الف عام، الا وتقابله بالضفة الأخرى مقارنات عديدة .. فالأبيض نقيضه اللون الأسود.. والجميل يقارن بنقيضه القبيح، والفرح يقارن بالحزن، والشرف بالرذيلة، والفخر بالعار ، والشجاع يقارن بالجبان.. وهكذا تقارن الأشياء بنقيضها في كل المجالات والميادين..
لذلك لم يكن غريباً امس حين ضجت وسائل التواصل الاجتماعي – بعد استشهاد السنوار مباشرة- بعقد مقارنة واحدة دون غيرها، تظهر فيها الفرق الشاسع بين عار البعثيين الذي ألحقه بهم صدام حسين حين أخرج ذليلاً من الحفرة ومعه (سلاحه) الذي لم يرم به إطلاقة واحدة، بل ولم يستخدمه قط، وبين مجد البطولة الباهر الذي تكلل به يحيى السنوار في ساعات استشهاده المشرفة، ووضعه تاجاً فوق رؤوس المقاومين في فلسطين ولبنان والعالم كله ..
إنها مقارنة طبيعية تعقد بين الظلمة والنور، والقبح والجمال، وستظل هذه المقارنة شاخصة أمام الأبصار، وراسخة في العقول والافئدة إلى الأبد، وسيظل (عار صدام) مضرباً للأمثال، كلما ظهر في المشهد بطل مثل السنوار، مادام الشيء يقارن عادة بنقيضه ..
لقد لطخ صدام حسين وجوه رفاقه وأفراد أسرته وأبناء قومه بسخام العار، ولن يزول هذا السخام أبداً، بينما أضاء السنوار بدمه طريق رفاقه في المقاومة، وأزهرت دماؤه ورداً في بساتين الثورة والحرية والاستقلال..
هما نموذجان شاخصان، وشتان بين هذين النموذجين..
ختاماً أقول وأعترف صراحةً بأني لم أكن من هواة ولا من محبي يحيى السنوار، لكن موقفه البطولي في(تل السلطان) وصموده الإعجازي بوجه الصهاينة المجرمين، واستشهاده المشرف، جعلني أنحني إجلالاً له ولتضحيته وبسالته.. وتقديراً واعتزازاً به وللدماء الطاهرة التي نزفها .. إذ يكفي السنوار فخراً أنه واجه ببندقيته الشخصية جنوداً وقتلة محترفين، و قاوم لوحده في تل السلطان دبابات وطائرات مسيرة، وأسلحة ثقيلة.. بينما كان (صدام ) جرذاً داسته بساطيل الجنود الأمريكيين بعد أن اكتشف هؤلاء الجنود أن (صدام) ليس اكثر من جرذ .. ولا يستحق أكثر من معاملة الجرذ.