بقلم : سمير السعد ..
في زمن يتسارع فيه التحول الاجتماعي والتكنولوجي، تبقى بعض القيم الأصيلة والموروثات الشعبية التي تعبّر عن معاني المحبة والصدق النقي، ثابتة في قلوب أبناء الريف وأهل العشائر. تلك القيم التي يجسدها التعبير الريفي الشهير “أ يا أحميد يمه و اهلي عمامي يا احميد يمه وبالعله ماتدرون ياأحميد يمه ”، ليست مجرد كلمات، بل تعكس معزة الأبناء والأولاد في مجتمع يحترم العلاقات الأسرية ويبني على الصدق والوفاء.
تمثل هذه العبارة، ومثيلاتها من الموروثات الشعبية، تراثاً ثقافياً يغمره الحب الصافي والبساطة، حيث اعتاد أهلنا في الريف على التعبير عن مشاعرهم بطريقة عفوية وصادقة، خالية من التكلف والزيف. هذا النقاء في العلاقات الإنسانية هو جزء من هوية المجتمع الريفي، حيث الأسرة والعشيرة والديوان أو المضيف هي محاور الحياة الاجتماعية.
رغم التحولات الكبيرة التي شهدها المجتمع العراقي في السنوات الأخيرة، بما في ذلك تغير بعض العادات والتقاليد بفعل العولمة والانفتاح، بقيت بعض الأماكن والبيئات الريفية محافظة على أصالتها الاجتماعية. فالمضيف والديوان ما زالا رمزين للكرم والتلاحم العشائري، حيث يجتمع أبناء العشائر لحل القضايا والتشاور في الأمور، محافظين على هذا الإرث العريق الذي يربط الماضي بالحاضر.
لكن هذا التمسك بالقيم الاجتماعية الأصيلة يواجه تحديات كبيرة، فالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع، أدت إلى تآكل بعض هذه العادات لدى البعض، حيث أصبح البعض مأسوراً بمظاهر الحياة الحديثة التي تفتقر أحياناً للصدق العاطفي والعلاقات الحقيقية. ومع ذلك، يرفض أبناء العشائر الأصلاء هذه التغيرات التي تحاول زعزعة التماسك الاجتماعي.
إن بقاء هذه القيم والموروثات مرهون بمدى قدرة المجتمع على المحافظة على أصالته وتوارث هذه العادات بين الأجيال. فالرغم من الصعوبات، تظل قيم الريف والعشائر شاهداً على زمن من النقاء والبساطة، يرفض الاندثار أمام أمواج الحداثة الجارفة.
مع مرور الزمن، والتطور الكبير الذي يشهده المجتمع في مختلف جوانب الحياة، أصبحت بعض القيم التي كانت تشكل نسيج المجتمع الريفي والعشائري عرضة للتغير أو التلاشي. هذا التحول السريع في السلوكيات الاجتماعية لا يأتي بدون تأثيرات سلبية على الروابط الأسرية والعشائرية التي كانت تشكل حجر الزاوية في المجتمعات الريفية.
ومن أبرز التحديات التي تواجه الهوية العشائرية اليوم هي وسائل التواصل الاجتماعي التي غيرت من طريقة التفاعل بين الأفراد، حيث أصبح التواصل الإلكتروني بديلاً عن اللقاءات الحية في الديوان أو المضيف. هذه الوسائل، رغم فوائدها في تقريب المسافات، إلا أنها أضعفت الروابط الحقيقية وأحلت المجاملات السطحية محل التواصل الحقيقي القائم على المودة والصداقة. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت التحولات الاقتصادية في هجرة بعض الشباب من الريف إلى المدينة بحثاً عن فرص العمل، مما أدى إلى انقطاعهم عن العادات والتقاليد الريفية.
ولكن رغم هذه التحديات، نجد أن أبناء العشائر الأصلاء لا يزالون يتمسكون بالعادات التي ورثوها عن أجدادهم. فالمضيف، الذي كان وما زال رمزاً للكرم وحل النزاعات، لا يزال قائماً كمنارة للتفاعل الاجتماعي والتضامن العشائري. كما أن القيم الأساسية مثل الاحترام المتبادل، والكرم، والتآزر بين الأفراد لا تزال محفوظة في الأوساط العشائرية.
إن ما يميز المجتمعات الريفية والعشائرية هو قدرتها على الحفاظ على تراثها عبر الأجيال. وتبقى مسؤولية توارث هذه القيم تقع على عاتق كبار السن والأجيال الأكبر الذين شهدوا تلك الفترة الذهبية من العلاقات الاجتماعية. ينبغي على الآباء والأمهات أن يعملوا على نقل هذه القيم إلى أبنائهم وتعليمهم أهمية الاحترام، والتعاون، وحسن الجوار، وألا يغفلوا عن ضرورة التشبث بالهوية العشائرية.
المدارس والجامعات أيضًا يمكن أن تلعب دوراً في تعزيز هذا التراث، من خلال تعليم الطلاب عن أهمية التقاليد الثقافية والاجتماعية، وتنظيم الأنشطة التي تعزز الروابط الاجتماعية بين الأجيال. فلا ينبغي أن تكون تلك القيم مجرد ذكريات من الماضي، بل يجب أن تبقى حية في عقول وقلوب الأجيال الصاعدة.
يبقى التحدي الأكبر هو الموازنة بين الانفتاح على التطورات الحديثة وبين التمسك بالجذور الأصيلة. فالهوية العشائرية والريفية ليست مجرد تقاليد قديمة، بل هي روح مجتمع نقي يرفض الانحناء أمام الرياح المتغيرة. إن الحفاظ على هذه الهوية هو ليس فقط حفاظاً على الماضي، بل هو أيضاً بناء لمستقبل يتسم بالصدق والعفوية والاحترام المتبادل.