بقلم : سمير السعد ..
في مجتمعاتنا، لا يخفى على أحد أن الاضطرابات النفسية تؤثر على العديد من الأفراد بدرجات مختلفة. هذه الاضطرابات قد تتطور إلى عقد نفسية تؤثر سلباً على سلوك الشخص، مما يجعله يتصرف بعدوانية أو انعزالية. وللأسف، غالباً ما يتم تجاهل هذه الحالات أو إساءة تفسيرها، ما يفاقم من المشكلة بدل من معالجتها.
الأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض النفسية يمرون بأزمات تحتاج إلى رعاية طبية متخصصة. إلا أن التحدي الأكبر يكمن في الوصمة المجتمعية المحيطة بالصحة النفسية، حيث يُنظر إلى المرض النفسي على أنه ضعف أو عار، في حين أن الحقيقة العلمية تشير إلى أن هذه الأمراض، شأنها شأن الأمراض الجسدية، تحتاج إلى علاج ورعاية صحية. العيادات النفسية المتاحة في العديد من الدول تقدم الدعم اللازم للأفراد، ولا يجب أن يُنظر إلى مراجعة الطبيب النفسي على أنها ضعف، بل خطوة نحو الشفاء.
ما يزيد الأمر تعقيداً هو ظهور سلوكيات في المجتمع ترتكز على مبدأ “خالف تُعرَف”، حيث يقوم بعض الأفراد بتبني مواقف عدوانية أو غير مألوفة للفت الانتباه أو لخلق نوع من التميّز الشخصي. هنا، قد يكون السؤال: هل هؤلاء الأفراد يعانون من اضطرابات نفسية حقيقية أم أن دوافعهم نفسية اجتماعية تتمحور حول جذب الانتباه وتحقيق شهرة مؤقتة؟ الحقيقة أنه في كثير من الأحيان يكون المزج بين الأمرين، مما يزيد من تعقيد الصورة.
إذن، كيف يمكن للمجتمع أن يتعامل مع هذه الظواهر؟ العلاج النفسي هو جزء من الحل، لكن يجب أن يبدأ المجتمع أولاً بتثقيف نفسه حول أهمية الصحة النفسية والتعامل مع المرضى النفسيين بإنسانية وتفهم. لا يمكن إغفال دور الأطباء النفسيين في تقديم الدعم والعلاج المناسب، لكن يجب أيضاً أن يتحمل المجتمع جزءاً من المسؤولية في خلق بيئة تعزز من تقبل الآخر وتفهم حاجاته النفسية.
ببساطة، الصحة النفسية جزء لا يتجزأ من رفاه الفرد والمجتمع، ومراجعة الطبيب النفسي ليست ضعفاً بل خطوة نحو حياة أكثر توازناً.
الأمراض النفسية لا تتعلق فقط بالشخص المصاب، بل تتجاوز ذلك لتؤثر على العائلة والمجتمع ككل. فالشخص الذي يعاني من اضطراب نفسي قد لا يكون قادراً على التعبير عن مشاعره وأفكاره بشكل صحي، مما يؤدي إلى انعزاله أو تفاعله مع الآخرين بطرق مؤذية. هذا التفاعل قد يتطور ليشمل سلوكيات عدوانية، سواء كانت لفظية أو جسدية، مما يعمق الهوة بينه وبين محيطه.
من هنا تأتي الحاجة الملحة للتوعية حول الأمراض النفسية وفهم أن العلاج ليس رفاهية أو خياراً ثانوياً، بل ضرورة لتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي. الدول المتقدمة وضعت أنظمة دعم نفسي متكاملة تشمل عيادات نفسية ومستشفيات متخصصة تقدم العلاجات اللازمة، بما في ذلك العلاج السلوكي، الدوائي، وحتى العلاج الجماعي الذي يتيح للمريض التفاعل مع الآخرين ممن يمرون بتجارب مشابهة.
ولكن السؤال المهم هنا هو: كيف يمكن للمجتمعات التقليدية التي قد تعتبر الاضطرابات النفسية “ضعفاً” أو “عاراً” أن تتجاوز هذه الفكرة المغلوطة؟ الإجابة تكمن في التعليم والتوعية. يجب أن تبدأ المدارس، أماكن العمل، وحتى وسائل الإعلام، بتبني خطابات صحية حول الأمراض النفسية. الأفراد بحاجة إلى فهم أن المرض النفسي ليس اختياراً، بل هو حالة تتطلب دعماً وعلاجاً، تماماً مثل أي مرض جسدي آخر.
كما أن دعم العائلة والأصدقاء للمريض يلعب دوراً حيوياً في تحسين حالته النفسية. عندما يشعر الشخص بأنه محاط بحب وتفهم، يكون أكثر استعداداً لطلب المساعدة والتعاون في خطة العلاج. ولكن في حالة العكس، قد يغلق المريض على نفسه ويصبح عدوانياً، مما يزيد من تفاقم حالته.
على مستوى السياسات العامة، يجب أن تعمل الحكومات على زيادة عدد العيادات النفسية المتاحة، وتشجيع الناس على الاستفادة من هذه الخدمات. توفير جلسات مجانية أو بأسعار معقولة للأشخاص ذوي الدخل المحدود سيكون خطوة هامة. كذلك، يجب تسهيل الوصول إلى الأطباء النفسيين دون الشعور بالخجل أو الخوف من الوصمة المجتمعية.
وفي النهاية، يبقى أن الحل الأمثل للتعامل مع الأمراض النفسية في المجتمع هو التعاون بين الأطباء، العائلة، والمجتمع بشكل عام. إدراك أن كل فرد يمر بتجربة نفسية قد تكون خفية هو أول خطوة نحو مجتمع أكثر صحة نفسية وإنسانية.