بقلم : فالح حسون الدراجي ..
في محاضرة ممتعة، وجريئة جداً، نجح الروائي والناقد التشكيلي الدكتور جمال العتابي، في جذب وشد انتباه الجمهور نحو المنصة التي جلس خلفها بصحبة مقدم المحاضرة الدكتور زهير البياتي، كما نجح العتابي في السيطرة على عنوان المحاضرة، ومفرداتها، وإغناء محاورها بما يفيد ويمتع، رغم التعقيدات، والألغام التي حملها عنوانها : ( العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة)، دون أن يضيع لحظة واحدة من وقت الجمهور، أو من الزمن المخصص لهذه المحاضرة.. وهذا أمر لا يحدث قطعاً في كل المحاضرات المشابهة.. لا سيما في هذا العصر الذي يتسم بالتشتت والقلق والتيه، أو في الانشغال بالموبايل والاتصال الهاتفي المفرط، بحيث يتعذر اليوم حتى على رئيس الولايات المتحدة ترك هاتفه لحظة واحدة، وبات من الصعب وغير الواقعي أيضاً، أن نتوقع ألا يتشتت انتباه الحضور خلال أية محاضرة، لاسيما وأن المُشتتات كثيرة هذه الأيام كما قلنا.
ومع ذلك فقد نجح جمال العتابي بتقديم محاضرة متميزة ومهمة، تركت الحضور يشعر أنه استفاد بوقته وحضوره فعلاً. ولم يكتف العتابي بتقديم محاضرة مهمة ونافعة فحسب، إنما تمكن أيضاً بأسلوبه المرح، ولطفه، وخفة ظله، من بث جو من الفرح والبهجة والحبور على دقائق وثواني (الساعتين) اللتين استغرقتهما المحاضرة ..
وهذا الأمر ليس سهلاً قطعاً، بخاصة حين يتناول المحاضر موضوعاً مهماً وحساساً يهتم بعلاقة السياسي بالفنان، وأمام جمهور نصفه سياسي حزبي، ونصفه الثاني فني تخصصي، أو قريب من بعض العناوين الفنية.
وكم سيكون الأمر حرجاً على المحاضر حين يلتقط أمثلته من حكايا ووقائع تاريخية حساسة، وِضعت أمامها من قبل خطوط حمر عديدة، إن لم يكن المرور منها ممنوعاً جداً..
تخيلوا أن جمال العتابي، (يتحارش) عينك عينك بمؤسس الدولة السوفيتية، والحزب الشيوعي (البلشفي) فلاديمير لينين، وينتقد أسلوب زعيم الحزب الشيوعي جوزيف ستالين بتعامله مع الفن والفنانين وعموم المثقفين، ولا يأبه لاسم ستالين الذي يعني (الرجل الحديدي).. ولعل الأمر الأكثر أهمية في هذه المحاضرة، أن العتابي لم يكتف بالتطرق لهذين الزعيمين الشيوعيين الفذين فقط، إنما تطرق واقترب جداً من أهم قادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وأعني به نيكيتا خروتشوف.. بل هو سمح لنفسه ولنا أن نضحك على موقف كان قد حصل بين (خروتشوف) وأحد النحاتين الروس، كل هذا الكلام يأتي على لسان العتابي (المطمئن)، والواثق، و (المرتاح) وهو يلقي محاضرته في بيتنا الثقافي -يعني في مقر الحزب الشيوعي العراقي- وليس في مكان آخر، وبحضور ومشاركة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الرفيق رائد فهمي شخصياً، فضلاً عن حضور ومشاركة عدد من الرفاق اعضاء المكتب السياسي، واللجنة المركزية للحزب !
فهل هناك ديمقراطية أروع، وأوضح وأفصح من هذه الديمقراطية ؟! وهل ثمة من يجرؤ بعد اليوم على اتهام الاحزاب الشيوعية بالاستبداد والمركزية المفرطة على حساب الديمقراطية، إذا كان سكرتير أبرز الاحزاب الشيوعية بالشرق الأوسط
يحضر ويسمع ويناقش محاضراً لم يوفر جهداً في المصارحة والمكاشفة، بدءاً من العنوان وانتهاءً بطروحات ومداخلات الحضور التي أخذت وقتاً ومساحة واسعة، صريحة، بل رأينا أن السكرتير كان يضحك مثلنا أيضاً حين يستدعي المثال ضحكاً ؟
ختاماً، أرفع قبعتي مرتين، مرة للدكتور جمال العتابي ومحاضرته الممتعة والجريئة، ومعه الدكتور زهير البياتي الذي قدم المحاضرة باقتدار ومهارة، ولغة نقية جداً..
ومرة أرفعها باحترام واعجاب للحزب الشيوعي العراقي بسكرتيره وقيادته وجمهوره الكريم الذي حضر وشارك بفاعلية وديمقراطية لا نجدها حتى في الأحزاب الديمقراطية الغربية ..
ختاماً، اسمحوا لي أن أقدم لكم المثال اللطيف الذي عرضه العتابي، و الذي أضحك جمهور المحاضرة، حيث يقول:
( أقام عدد من الفنانين التشكيليين الروس الذين تأثروا بالتيارات الجديدة في الغرب، معرضاً تشكيلياً للرسم، في موسكو عام 1962 وصف أنه طليعي، ضم عدداً من الأعمال التي تنتمي لأساليب رسم حديثة، وبمواد مختلفة، لم يألفها الجمهور سابقاً، منها تجريدية وتعبيرية وبموضوعات ذات توهجات ورؤى وأحلام خفية.. وفجأة دخل (خروتشوف) المعرض..
ومن المفارقات المثيرة أن خروتشوف، وأثناء دخوله المعرض، كان بمواجهة عمل للفنان نيزفستني، تأمله سريعاً، وقطب حاجبيه، وسرعان ما وصف العمل بامتعاض قائلاً إنه (منحط) .. وتابع القول: هذا الرسام لا يستحق منا سوى أن نمنحه جواز سفر للذهاب فقط، دون عودة لبلد (الاشتراكية) واتهمه بتشويه تاريخ الشعب السوفييتي، لم تصدر عن الفنان أي ردود أفعال سلبية، إنما التزم الصمت، لم يكن أمامه غير ذلك، وفي داخله سخرية مريرة.
وفي 11 سبتمبر/كانون الأول عام 1971 توفي خروتشوف، ولم يدفن في مقبرة قصر الكرملين في الساحة الحمراء، أسوة برفاقه من الزعماء السوفييت، إلا أن النحات ( نيزفستني) فاجأ كريمة خروتشوف، وهي زوجة رئيس تحرير جريدة «الأزفستيا» آنذاك، باتصال هاتفي رفضته في بادئ الأمر، ثم اضطرت لقبوله بعد إلحاح شديد، وقدم لها الرأس المنحوت، مع عبارة (هدية النحات المنحط) !.