بقلم : حسين الذكر ..
في ضائقة ، وأزمة حضارية لم يحصل مثلها من قبل ، ضج أهل المدينة المغلوب على أمرها ، فقالوا : نحتاج إلى قيادة حكيمة تشتمل على مثالية الحكم وأنموذجيته التي سمعنا بها ، وقرأنا عنها من قبل .
رد أحدهم متسائلاً : ( ومن أين سنحصل على تلك القيادة إذا لم نر ونعِشْ تحت كنف أمثالها ولم نقرأ عنها إلا في الكتب والسير التاريخية المروية عن طريق الحكام ذاتهم ، وهم يتحدثون عن أنفسهم .. بما يضع ألف شك في طريق القناعة .. ) ،ثم سخر بطريقة تهكمية : ( هل سنبحث بالكوكل أم نشتري تذلك الأنموذج من سوق بلي أو بالتطبيقات ؟ ) .
فقال أحد كبار القوم قائلاً : ( فلنقتدي بالأسد .. ذلك الهوصر العتيد ، فهم منذ أقدم قصص التاريخ يتحدثون عنه … حتى عالم العولمة وعصر الافتراض الذي يسود ويؤسس للوهم .. ما زال أسداً يحكم غابته ، ويتحكم ببني جنسه ) .
في اليوم التالي خرجت الجماهير تهتف باسم الأسد ، وأنه الوحيد القادر على إدارة دفة الأمور ، وسير المركبة إلى شواطىء الأمان .. وأخذوا يبحثون عن أسد .. فقال أحدهم : إن الأسد الإفريقي أقوى و أكثر فتكاً .. فيما قال الآخر : إن الأسد الآسيوي سريع ومشهود له بالمعارك ، قال آخر : بل أسد أاطلسي يمتاز بالقدرة على شم الخطر الاستباقي والانقضاض عليه مبكراً .. بينما قال آخر : إن الأسد العربي له تاريخ وثقافة ، ويمكن له أن يجيد فن التحضر والاندماج بالمجتمع بشكل أسرع .
مرت أيام ، والناس تهيم بالشوارع والنخب تتداول أمرها ، فيما كان المرض والأزمة يمخران عباب الجسد الاجتماعي المتهالك للمدينة المنكوبة وأهلها ، حتى قرروا أخيراً أن يستكشفوا الميدان ويعيشوا التجربة الأسدية ؛ كي تأتيَ الخطوات بعيداً عن عقم النتائج .. وقرروا تشكيل لجنة ، فقضوا وقتاً طويلاً بالاختلاف حول انتخاب أسمائها ، ومَن الأجدر والأقدر على تقييم الأسد ، ووضع معايير اختياره ، ويهتدوا أخيراً إلى ضرورة أخذ متخصص بشأن الأسود .. فجلبوا شخصاً أقرب إلى الثعلب منه إلى الإنسان ، ثم اعترض آخر قائلاً: هذا لا يكفي نحتاج شخصاً قادراً على تقييم وضع الغابات والتعامل معها وبيئتها الأقرب إلى بيئتنا ، ثم وقع الاختيار على ثعلب آخر يعرف كل صغائر الغابة وكبائرها ، فاعترض أحدهم قائلاً : ( كيف سنعرف عدالة أسدنا المفترض وحكمته ؟) .. فجاء الرد من خلال حب الجماهير واجتماعها عليه ، فإن الجموع لن تخطىء أبداً .. مع أن التبرير لم يكن مقنعاً للكثير ، إلا أن الأغلبية سحقت رأي الأقلية ، ومرر الرأي الذي حسم النقاش ، وختم به ملف اللجنة .
الأزمة بدأت حينما ظلوا يراقبون ويسألون عن الأسد .. بعضهم قال: هذا مصنوع .. والآخر قال : هذا مهجن .. وغيره قال : إنه مجبول على ما لا يتناسب مع مدينتنا وطموحاتنا .. فيما ذهب آخر يسرد بعض السمعيات والمرئيات والمقروءات عن تاريخ الأسود ؛ إذ قال : ( سمعت أن الأسد وسخ ذو رائحة كريهة ، وهو مناقض لأهم مبادىء نظافتنا التي هي جزء من الإيمان .. كما أني علمت أنه لا يجيد إلا أكل اللحوم والافتراس .. ونحن كمن يأتي بقتّاله في بيته .. فجميع أهل مدينتنا من الصنف اللحمي، وهم بسطاء وضعفاء لا يقوون على منازلته والدفاع عن أنفسهم إذا ما هاج بليلة وقرر أن يعود إلى مسلكه وأصله .
قال آخر : إن الأسود مذ خلقت لم تغير طباعها ، فهي دكتاتورية النزعة، لا تقبل منازعاً لها في سلطانها ، ولا ترضى بأية حلول تفاوضية، ولا تحسم نزاعاتها إلا بالدم والقتل .. وقد مللنا ذلك ، فهل يمكن أن نحصل على أسد خارج هذه المعايير والصفات .. تعقد مشهد الرسل، وضاقت بهم السبل حينما قال حكيم الحيوانات : ( إن ما تداوله الذوات هو الحق يا سادة .. إنكم لن تصلوا إلى مبتغاكم الذي هو أقرب إلى الجنون منه للحق ؛ لذا أنصح بالعودة إلى دياركم، والبحث عن الإنسان الأسد .. لعله أرحم قليلاً مما نمتلك من أسود أقل ما يقال عنها أنها قاهرة وبالفتك ماهرة ..بل بكثير أحيانها عاهرة ) .