بقلم : فالح حسون الدراجي ..
في البدء، يجب أن لا نغفل السؤال الذي يطرحه الكثير من العراقيين، وإن اختلفوا في الإجابة عليه .
والسؤال: لماذا يقوم العراق بالوساطة بين إيران والسعودية، وبين إيران وأمريكا، وهو ليس مكلفاً بهذه المهمة من قبل الجامعة العربية مثلاً، او من منظمة المؤتمر الإسلامي، أو من هيئة الأمم المتحدة.. أو حتى من إيران أو السعودية أو أمريكا.. وهل أن العملية تأتي بمبادرة فردية من قبل رؤساء حكومات العراق، الذين يتطوعون لأداء هذا الدور (الحلو)، تملقاً لإيران او تزلفاً للسعودية، أو لكسب ودّ أمريكا.. بمعنى أوضح، هل إن القيام بمثل هذه المبادرات الحميدة يأتي لأسباب شخصية، خاصة برؤساء الوزراء، أم تأتي استباقاً لمنع وقوع أحداث خطيرة إن لم يتحرك ويتوسط العراق لإيقافها درءاً للمخاطر ؟!
وللإجابة عن هذه الاسئلة المحتشدة في ثنايا سؤال واحد، يتوجب علينا القول إن العراق الآن يمر في ظرف حساس بل وخطير للغاية .. ومن الطبيعي أن يتحرك العراق وهو بهذا الحال في شتى الاتجاهات لإبعاد الخطر عنه، لاسيما وأن الأقدار الكونية قد وضعته جغرافياً في محيط مضطرب، ومتخاصم مع بعضه، بل ومتصادم أغلب مراحل التاريخ ..فالكويت تقع للأسف على حدود العراق الجنوبية، وايران تقع على حدوده الشرقية، وتركيا على حدوده الشمالية، والسعودية وسوريا والأردن على حدوده الغربية.. وحين يكون جيرانك مثل هؤلاء المختلفين والمتخالفين، وفي ذات الوقت انت تعرف أنها (قنابل) مزروعة على حدودك ، لا تعرف متى تنفجر عليك، أو متى (يفجرها ) عليك الآخرون، فسيكون من الطبيعي أن تضطرب وتقلق، وتأخذ الحذر في كل خطوة تخطوها نحو هذه الحدود الملتهبة، خاصة وان شعب العراق قد ذاق من قبل الأمرّين، وشرب كأس المرارة حتى الثمالة في حربين كارثيتين حصلتا بسبب هذه (الجورة المصخمة)، فقد في إحداها أحلى شبابه، ونزف دماً طيلة ثماني سنوات، وفي الحرب الثانية تدمر اقتصاده ونفطه وفقد لقمة عيشه.. وإذا كان البعض يقول إن صدام حسين كان السبب الأول والأخير في نشوب هاتين الحربين وليس الجيران، فأنا أتفق في ذلك تماما وأقول، و هل كانت هذه الحروب ستحدث لو كان موقع العراق في قارة أوربا مثلاً، وإن جيرانه الدانمارك والنرويج والسويد وفنلندا وسويسرا، وليس هذه البلدان ( البلاوي ) التي تجاورنا اليوم من سوء الحظ؟!
طبعاً لم تكن حربنا مع إيران والكويت فقط، إنما كانت هناك أيضاً (مشاريع) حروب عديدة أخرى، ومع دول مجاورة، لكن بعضاً من العوامل والأقدار رحمتنا وتدخلت فمنعت أكثر من حرب مع سوريا والأردن والسعودية وتركيا أيضاً..
إذن يمكننا القول اليوم أن مصيبتنا تكمن في حدودنا وموقعنا وجيراننا الكوارث
لذلك سعى الرؤساء الذين جاؤوا لسدة الحكم بعد سقوط صدام ونظامه، إلى تجنب الإقتراب من هذه القنابل، وتحاشي الاحتكاك بها، لاسيما دول السعودية والكويت وايران رغم أن هذه الدول (داست بمصارين العراق) ألف مرة، لكن العراق كان حكيماً في تعامله معها.. !!
ولم تكتف الحكومات العراقية المنبثقة بعد سقوط صدام باستخدام الأسلوب المرن مع هذه الدول، وبممارسة سياسة ضبط النفس، وتجنب التصادم بها مهما كانت الأسباب.. وهذا ليس عيباً طبعاً، بل هو أمر يحسب لصالح حكوماتنا، فالعاقل لا يلدغ من جحر الحروب مرتين .. وبلادنا لدغت من جحر الحماقة الصدامية وسياسة العنتريات مرات عديدة، كما اكتوت بنيرانها كثيراً .. و هذا يكفي ان يكون درساً لنا .
وللتاريخ أعيد وأقول أن حكوماتنا لم تكتف بذلك، إنما سعت ايضاً الى تفكيك هذه القنابل وليس تحاشيها وتجنبها فقط.. إذ بدأت عملية (التفكيك) الفعلية في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وكانت أولاً بين إيران والسعودية، حيث رعى الكاظمي خمس مباحثات وجولات بين البلدين اللدودين.. ثم استكملت المباحثات في عهد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي طلب حال تسلمه رئاسة الحكومة، من وزير خارجيته فؤاد حسين وفريق من مكتبه، استئناف جهود الوساطة العراقية بين طهران والرياض.. وترتيب لقاء جديد بين الطرفين بعد أن توقفت هذه اللقاءات ولم تتحقق الجولة السادسة لفترة غير قصيرة .. واذا كان العراق قد نجح في عهد الكاظمي بجمع وفدين يمثلان السعودية وايران على طاولة واحدة في خمس جولات، بدءاً من جولة نيسان 2021، حتى جولة تموز 2022 , وهو الأمر الذي كان يشبه المستحيل، فإن السوداني نجح في تحقيق الجولة السادسة التي فشل الكاظمي في عقدها، بسبب الخلافات بين الرياض وطهران حيال بعض الملفات، ومنها الملف اليمني ..!
وللحق فإن توجه حكومة السوداني يتطابق بشكل تام مع توجه حكومة سلفه السابقة، لاسيما في ملف العلاقات الخارجية للعراق. ولعل أبرز نقاط هذا التطابق تظهر عبر تأكيدات المسؤولين العراقيين على عدم الانضمام إلى سياسة المحاور في المنطقة، وأداء دور التهدئة والتبريد، وهذا ما يعتبر أملاً بالنسبة لحكومة السوداني بأن تقدم نفسها كوسيط نشيط، وشريك سلام فاعل وجاد بين الأطراف المتخالفة.
وفي هذا السياق أشارأحد وزراء حكومة السوداني إلى أن” الحكومة قررت المضي بالوساطة انطلاقاً من أن الهدوء في المنطقة ينعكس إيجاباً على العراق”. كما أكد الوزير على أن “رئيس الحكومة قد يمضي بعيداً في مسألة الوساطة أو الربط بين إيران وعدد من دول المنطقة لتشمل الأردن ومصر أيضاً”.. وأكمل قائلاً إن “السوداني يُدرك خطورة وقوف بغداد مع محور إقليمي أو دولي ضد أي محور آخر، ولهذا يعمل على جعل العراق متوازناً في علاقاته الإقليمية والدولية”. كما شدد على أن “رئيس الوزراء سيعمل مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية.. وإن أية وساطة عراقية ستكون مدعومة بقوة من الدول الكبرى.
وأوضح أن “توتر العلاقات بين أي أطراف دولية وإقليمية في المنطقة ستكون له نتائج سلبية على الوضع العراقي الداخلي، ولهذا فإن السوداني يعمل على تهدئة الأوضاع من أجل ضمان عدم تأثر بغداد بتلك الأزمات والخلافات الإقليمية”. وأكد أن “السوداني سيعمل، بدعم جميع القوى السياسية، على تهدئة الأوضاع من خلال وساطات ما بين عدد من الدول الإقليمية والعالمية”
إذاً، فإن قيام العراق بأداء دور الوسيط بين إيران والسعودية، أو بين ايران وامريكا، هو دور وطني بحت، غرضه معالجة المشاكل قبل وقوعها، وليس الغرض منه التملق او التقرب لأمريكا وايران.. أما البعض الذي يقول إن لأداء هذه (الخدمة) ثمناً قبضه الكاظمي، أو السوداني، من إيران أو السعودية أو أمريكا ..وإن هذ (الخدمة ) ليست مجانية.. وأنا أقول أن هذا الافتراض غير صحيح بالمرة، بدليل أن تلك ( الخدمة ) العظيمة التي قدمها الكاظمي لإيران في مجال التوسط بين طهران والرياض، وبين طهران وواشنطن،مرت مرور الكرام، وقطعاً لم ينل عنها شيئاً، إذ لو أرادت إيران مكافأته على جهوده المبذولة فعلاً، لوافقت على ترشيحه لولاية ثانية ولأرسلت إلى حلفائها ومؤيديها في العراق (گصگوصة) صغيرة تكون كافية لتجديد الولاية، وحسم الأمر.. لكن إيران (الدولة القوية)، ذات المؤسسات الرصينة هي قطعاً ليست من النوع الذي يفرح لهذه الوساطات، ولا من النوع الذي يجزل العطاء لمن يقوم بها !!
لذلك، فإن وساطات الكاظمي والسوداني – برأيي – بريئة، وغايتها التهدئة ودرء المخاطر عن المنطقة فحسب، ولا اعتقد أن خلفها حسابات ومنافع شخصية !
وبناءً على هذه القناعة أقول: اذا كان العراق يحرص كل هذا الحرص على تهدئة الأوضاع ونزع فتيل الأزمات بين الدول المجاورة، ويقوم بإطفاء الحرائق في المنطقة قبل اشتعالها عبر الوساطات، فكيف سيكون حرصه وفاعليته ونشاطه حين يشعر أن النار قريبة منه، ومن بيته؟!
وهل ثمة خطر أقرب من خطر النار التي يهددنا بها الصهاينة صباحاً ومساءً.. وحجتهم أن الكثير من الصواريخ التي تصيب المدن والمواقع ” الاسرائيلية ” تنطلق من العراق أو تمر منه، لذلك يرومون وضع حد لها عبر ضرب المدن العراقية !!
ويقيناً أن الأمر أصبح واضحاً، وأن ( نتنياهو ) يبحث عن سبب ومبرر لقصف العراق، رغم أن المجرم لا يحتاج أبداً إلى سبب للقيام بجريمته..
وهنا يجب على العراق التحرك نحو من بيده (الستيرن) لإبعاد الشرر والضرر عن بلادنا، وأقصد بذلك التحرك نحو إيران وأمريكا اللذين يقودان مقود الأحداث، ويؤثران في المتحاربين..
وهنا يجب على السوداني أن يختار شخصية تنوب عنه اللقاء والتحدث إلى هذين البلدين المهمين، على أن تتوفر فيها ثلاث صفات: الاولى أن يكون مبعوثه مقبولاً جداً لدى الطرفين، وهذه الصفة برأيي صعب توفرها حالياً.
والصفة الثانية أن يكون المبعوث شجاعاً وصادقاً بل ومعروفاً بصدقه لدى الطرفين.. أما النقطة الثالثة فتتمثل في الحياد، بمعنى أن يكون وسيطاً غير متحيز لأي طرف.. وطبعاً فإن محمد شياع السوداني يعرف جيداً أن هذه المواصفات وغيرها الكثير متوفرة في شخصية مستشاره للأمن القومي قاسم الأعرجي، فضلاً عن ثقته الكبيرة به، لاسيما وأن السيد الاعرجي لايفكر باستثمار هذه ( الخدمة ) في بنگ المناصب، ولا يطالب بها إيران او امريكا لأن هذه الخدمة في عقل وقلب الاعرجي محصورة بمنفعة العراق حصراً، والمتمثلة بإبعاد الضرر عن بلاده، ناهيك من أن الرجل – كما اسمع منه كلما التقيه- لايفكر ولايطمح بتسلم منصب رئيس الوزراء حتى ولو بعد خمسين عاماً، فهو بطبيعته غير ميال ولا متحمس لمثل هذه المناصب القيادية، رغم أن عقليته، عقلية رجل دولة من الطراز الفاخر .
وأمس، حين زرته في مكتبه والتقيت به لأودعه قبل سفري بيوم واحد إلى الولايات المتحدة، وكذلك من أجل معرفة آخر المستجدات السياسية، وما ترشح لديه من طروحات وتوقعات لما سيحدث لاسيما وأنه يشغل منصب مستشار الامن القومي ولديه الكثير من المعلومات، كما أنه زار طهران والتقى قبل ثلاثة ايام كبار أركان الدولة الإيرانية، والتقى أيضاً بالسفيرة الأمريكية في العراق، وبعدد غير قليل من المسؤولين الأمنيين في امريكا واوربا، فضلاً عن لقائه أمس بالسيد مسعود البارزاني وغيرهم.
لخص لي الوضع بقوله : إن الوضع خطير جداً دون شك، لكن ايران حريصة على عدم (توريط) العراق بأية مشاكل مع الصهاينة والأمريكان، حرصاً منها على العراق ارضاً وشعباً وبنية تحتية.. كما أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني منتبه جداً لهذه المخاطر، وسيكون لدينا هذا اليوم اجتماع مهم مع دولته وعدد من الوزراء والقيادات الأمنية والعسكرية العراقية، وسيضعنا الرئيس في الصورة بل وفي قلب الحدث، فهو القائد العام ولديه الكثير من الأشياء المهمة التي سيقولها .. ختاماً والكلام للاعرجي: أما أنا فلا أُصغر من شأن المخاطر، ولا أضخمها وأهولها ايضاً، إنما أقول:
نعم هناك مخاطر جدّية وصريحة، لكننا قادرون على إبعادها عن بلادنا، ونحن نعمل فوق طاقتنا من أجل تحقيق ذلك بعون الله ورعايته ..