بقلم : فالح حسون الدراجي …
رجلان في أول التاريخ عرفا وجع الفقر، وقدَّرا خطورته، وتاثيره على الإنسان أكثر من غيرهما، احدهما العظيم علي بن ابي طالب، الذي تمنى أن يكون هذا الفقر رجلاً، فيقتله وينقذ الناس من شروره.. وهل ثمة أحق من علي وأجدر منه لمثل هذه المهمة البطولية والإعجازية المستحيلة؟. والثاني صاحب الإمام علي، ورفيق دربه الرسالي، ابو ذر الغفاري الذي قال عن الفقر والجوع يوماً: (عجبت لِمن لا يجد قوتاً في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه)!! بعد علي وأبي ذر تغيرت النظرة الى الفقر والجوع، ولم تعد الحلول متوقفة عند السيف كما كان في زمن أبي الحسن، وأبي ذر، وإن كان السيف أصدق أنباءً من الكتب كما يقول أبو تمام .. لذلك انتظم الكثير من الثوار والمجاهدين، والمفكرين، والمصلحين المحدثين الذين لا يسع المجال لذكرهم في هذا المقال، في طابور المدافعين الأشداء عن الفقراء والجائعين، فوقفوا حيث وقف قبل أربعة عشر قرناً أمير المؤمنين علي وصاحبه القديس أبو ذر.. وللحق فإن كل الذين نذروا أنفسهم لقضية الفقر قدموا جهداً وعلماً ونظرية ودما لا يستهان به.. فمنهم من نجح، وحقق لشعبه الخير والمنفعة، ومنهم من لم ينجح، فكانت له فضيلة المسعى والجهد المخلص المبذول.. ولعل غاندي واحد من الذين نجحوا في إبعاد خطر الفقر الفادح عن بلدانهم.. وهنا قد يقول البعض كيف نجح غاندي في ابعاد خطر الفقر الفادح عن الشعب الهندي، بينما الهنود جائعون وفقراء معدمون، يحصلون على قوتهم اليومي بالكاد، بحيث أن معدل دخل الفرد الهندي أقل من (600 ) دولار سنوياً، بمعنى أن الهند تقع تحت خط الفقر؟ فماذا فعل غاندي، وتلامذته اللاحقون من حكام (وحاكمات) الهند، وماذا عالجوا من امراض الفقر؟ والجواب: أولاً أن عدد نفوس الشعب الهندي قد تجاوز المليار، وليس لديه موارد مهمة.. ولو كان هذا الوضع قد حصل مع أي شعب في العالم لهلك وانقرض ( جوعاً ) منذ سنوات بعيدة.. ثانياً أن هذا الشعب الذي يتمثل بخارطة بشرية ودينية وقومية واسعة جداً، ومتشعبة جداً، ومعقدة جداً، ظل متماسكاً، متوحداً، حياً دون أن تؤثر فيه فواجع الفقر، أو فوارق الإنتماء الأثني.. وإذا كان القول ضرورياً هنا، فيجب علينا أن نقول بأن الهند لم تستسلم لفقرها، ولم تخنع له، بل دحرته، وانتصرت عليه.. وشهود هذا النصر بيانات التقدم العلمي الهائل، ونسب التطور الطبي والصحي الذي بات علامة مهمة من علامات الحياة في الهند، إذ يكفي أن يعمل أكثر من عشرة آلاف طبيب هندي في أرقى المستشفيات، والمراكز الطبية الأمريكية والكندية، فضلاً عن أن الأساتذة الهنود الذين يحاضرون في الطب والهندسة والعلوم في أكبر وأفضل جامعات امريكا واوربا يحظون بثقة واحترام الشعوب المتقدمة.. أما الهند نفسها، وعلى وجه الخصوص مدينة دلهي فقد أصبحت اليوم قبلة المرضى، وأمل اليائسين من الشفاء في العالم.. بعد أن اثبتت مستشفياتها قدرة فائقة، ونجاحات باهرة ملموسة، بحيث أقنعت المرضى العراقيين الذين يصعب إقناعهم، فجذبتهم لها طائعين.. وهنا لا أحتاج الى شهادة ، بعد أن رأيت بأمّ عيني عشرات الآلاف من العراقيين والأفريقيين، والآسيويين، بل وحتى بعض الأوربيين يتعالجون في مستشفيات دلهي.. أما من ناحية الفقر في الهند، فأنا أقول نعم، أن هناك فقراً في الهند، وهناك عوزاً، وحاجة، كيف لا يكون ذلك، وفي الهند مليار مواطن، يحتاجون الماء والكهرباء والدواء والطعام والملبس؟ وكيف نتعجب من فقرها، وفيها شعب كبير يتناسل كل شهر كذا مليون مرة؟ علماً أن رأسمال الهند الكبير يكمن في زراعتها فقط.! فالهند بلاد العجائب والتناقضات السريالية، وبلاد الحضارة التي دخلتها منذ الالف الثالث قبل الميلاد، ناهيك من كونها أعرق بلدان العالم تطبيقا للنظام الديمقراطي البرلماني.. هذه الهند الكبيرة التي زرتها ذات يوم مرافقاً صديقي المريض علي عبد الحسين، الذي تعرض لجلطة دماغية كادت تودي بحياته لولا رحمة وعناية الله، وقد رافقنا في هذه الرحلة العلاجية القصيرة الصديق العزيز عباس غيلان متبرعاً من جيبه بمصاريفه (أي مصاريف عباس)، أقول إن هذه الرحلة الهندية قد كشفت لي أمراً فات على جميع الإقتصاديين، وعلماء الإجتماع، واساتذة التخطيط، ورجال المال في الهند وفي العالم معرفته، والأمر يتلخص بقضية لمستها بنفسي، هي أن الشعب الهندي الذي يواجه الفقر بصلابة، ويقاتله بقوة، بحيث تقول الدراسات العالمية الحديثة أن الهند ستغادر الفقر بشكل كامل ونهائي العام 2040 ، وان تقدمها نحو هذا الهدف بات محسوماً من الآن .. أقول إن نجاح الهند في مواجهة الفقر لم يتم لأسباب علمية واقتصادية وديالكتيكية فحسب، إنما لأسباب إنسانية وجمالية وفنية أيضاً..
فالمواطن الهندي المسحوق بمشاكل الفقر، والعوز، والحياة، والعمل، لم يقع فريسة الكآبة والتشاؤم والشكوى والخوف والتذمر، واليأس، والحلول القذرة، ولم يواجه مشاكله بالقنوط، إنما واجهها بالحب والغناء والرقص والألوان والبهجة والايقاعات المتعددة.. فالهندي يأكل ويشرب ويعمل وقلبه يغني، ويرقص.. لذلك فقد عالج الهندي قبح أمراض فقره بأدوات الجمال.. لقد رأيت للألوان في الهند مكانة خاصة في حياة الناس.. فهل تصدقون ان في الهند عيداً سنوياً يكاد يكون مقدساً للألوان.. فأي شعب شرقي يمنح اللون عيداً مقدساً كل عام ؟.. لا أريد أن احدثكم عن الايقاعات في حياة المواطن الهندي، مهما كان مستوى هذا المواطن..فهي ايقاعات متعددة، ومتدفقة، ونابعة من إيمانه بضرورة الايقاع الموسيقي في الحياة.. وفي الهند مثلاً الف قناة فضائية.. وكل قناة مهما كانت برامجها، تقدم حوالي عشرة أفلام هندية كل يوم .. فتخيل عزيزي القارئ أن شخصاً يرى عشرة آلاف فيلم غنائي راقص كل يوم !! صحيح أن الهنود فقراء مالاً، لكنهم متخمون جمالاً روحياً، وثقافة اسطورية، وايقاعاً ملوناً بألوان الحياة الهندية، وغناءً يجبرك على أن تمضي معه حتى النغمة الأخيرة، والرقصة الأخيرة.. والصرخة الأخيرة.. لهذه الأسباب، مع غيرها، هزم الهنود فقرهم، وانتصروا عليه..