بقلم : كاظم فنجان الحمامي …
ربما يطول بنا الحديث عن محطاتنا الخليجية المعنية بضبط وتأمين التواصل البحري مع السفن في الزمن الذي كانت فيه رموز المورس هي اللغة الوحيدة المعتمدة في تبادل الرسائل بين المحطات الساحلية العالمية، فالمورس لغة بسيطة تتألف من حـرفين فقط، لكن العبقرية البشـرية الخلاقة جعلت منها وسيلة مثالية لإرسال واستلام برقيات السفن الماخرة حـول العالم، وكانت المحطات العراقية من أشهر النقاط الساحلية التي بـرعت في التواصل المباشـر، فقـد بـلغت كوادرنا الوطنية مبلغا عظيماً في التراسل الراديوي باشارات المورس الصوتي والضوئي، وسنتحدث هنا عن الأستاذ (عبـد الصمد مجيد محسن الشاهين) باعتباره من رواد التواصل اللاسلكي في المرحلة الذهبية، التي تبوأت فيها الموانئ العراقية أرقـى المراتب الدولية في ستينيات القرن الماضي . .
ولد (الشاهين) عام 1930 في قرية من قرى الفاو، أكمل دراسته الابتدائية هناك، ثم انتقل إلى مركز المدينة لإكمال دراسته المتوسطة في الثانوية المركزية، والتحـق بـتاريخ ١٩٤٩ كمتدرب في دورة الاتصالات اللاسلكية، فتدرب على الإرسال والاستلام، وتعلم مبادئ نظام التخاطب الدولي، ورموز شفرة المورس، وبعض المفاهيم الفنية والتقنية. كان معه في تلك الدورة (49) متدربـاً نذكر منهم الأساتذة : عدنان عبد الرزاق السعدون، وإبراهيم عبـد الرزاق، وحميد مصبح، وكريم مصبح، ويعقـوب القبان، وعبد اللطيف حسين، وعودة رسن، وهاشم الشـريفي، وسيد موسى جعفر، وحسين علوان، وآخرون، وكان أستاذهم في الدورة ، هو العراقي (صديق بكر). أحرز عدنان السعدون المركز الأول، وجاء (الشـاهين) في المرتبـة الثانية، فعمل في بداية مشواره المهني في مطار البصرة، الذي كان تابعاً وقتذاك لسلطة الموانئ العراقية، ثم انتقل إلى محطة لاسلكي الفاو، التي كانت تمثل نقطة الارتكاز الأولى في التنظيم الملاحي لشـمال الخليج العربي، وهي التي تراقب تحركات السفن القادمة والمغادرة من وإلى موانئ شـط العرب، فعمل هناك قرابة (13) عاماً، كان فيها مستقرا مع عائلته في الفاو، لكنه تعرض للفصل من العمل لأسبـاب سياسية للمدة من 1963 إلى 1968، فانتقل إلى الكويت للعمل في شركاتها النفطية بوظيفة ضابط لاسلكي. .
اختارته الشركات البحرية الكويتية من بين (11) ضابطاً لاسلكياً، تسعة منهم خريجي المعاهد البحـرية البريطانية، تفوق عليهم (الشاهين) بمهارته المتميزة في الإرسال والاستلام، حصل في الكويت على شـــــــهادة ماركوني من الدرجة (B) والدرجة (A)، والتي تعادل البكالوريوس في علوم الاتصالات الدولية. .
عـاد إلى العراق عـام ١٩٦٨ ليعمل مـن جديد في محطة لاسلكي الابـلة، التي كانت تضم الأساتذة: عبد الجليل بجاي ، وطارق سليم، وإبراهيم التكريتي، وحامد بخيت، وسليمان محمد ، وعبـد القـادر وفاروق بخيت، وصـلاح مهـدي، وصبـاح رزوقـي، وجواد كاظم حسـين وحسـن صالح، وحسـن غضبـان، وسـالم محمد، وسالم بريدي حسن، ومصطفى عيسى، وكريم عاشـور، وعبد الواحـد عبـد النبي، ورجب شعبـان، ورجب محمد، وعبـاس بلش، وفاضل عبـد النبي، وحسـين عبـد النبي ، وحميد مجيد، وحسين علوان، وشـهاب أحمد مسنسل، وكان المهندس اللامع في هذه المجموعة، هو سـالـم عبد الله الحسو، ومعه عادل الرحماني، والمهندســة نوال كاظم، والمبــدع داود حميدي. اشترك هؤلاء في تفعيل الكتيبة التقنية المكلفة بتأمين التواصل مع سفن أسطول النقل البحري العراقي، وسفن أسطول ناقلات النفط العراقية، وسفن صيد الأسماك العراقية المنتشرة حـول العالم ، وكان لهم الدور الفاعل في التواصل مع خطوط الشحـن البحـري المرتبطة بالموانئ العراقية، وكانوا على تواصل دائم مع طواقـم السـفن والناقـلات العراقية المبحرة في عرض البحر. .
أطرف المواقف التي واجهها (الشاهين أثناء عمله، فهي حــــكايته مع ناقلة النفط العراقية (المستنصرية)، التي توقفت في قناة (بـنما)، على خلفية الخلاف الذي نشب بينها وبين المستورد بسبب نوعية الحمولة ومطابقتها للمواصفات الدولية، وشـاءت الأقـدار أن تتعثر الاتصالات لمد (12) يوماً بين محطة لاسلكي البصرة والناقلة المتوقفة في (بـنما)، فانقطعت أخبارها تماماً ، ما أدى إلى تزايد القلق على مصيرها المجهول ومصير طاقمها ، فتفتقت مواهب (الشاهين) الغزيرة عن فكرة بسيطة لم تخطر على بال أحد، إذ اتفق مع زملائه علـى إعـادة توجيـه هوائيـات المرســلات الموزعة على ضفاف شـط البصرة، وتعديلها بـزاوية معينة لتقـريب اتجاهها نحو الاتجاه الجغرافي لقناة (بنما) ، وهو أمر لم يكن مسموح بـــه في ظل السياقات المتشددة والثوابت الصارمة حيث يتعذر تحريكها بمقـدار بـوصة واحدة، فنجحت الفكرة وتحقق الاتصال المباشر مع ضابـط اللاسلكي (فيصل حسين جلوب) المتواجد على ظهر الناقلة، وما يثير الدهشة أن (الشاهين) يمتلك سرعة مذهلة في الإرسـال والاستلام البرفي، فهو يرسـل (32) كلمة بالدقيقـة الواحدة، ويستلم (30) كلمة بالدقيقة، وقـد مكنه
مستواه المتقدم في التفوق على مهارات العاملين في المحطات الروسية، ناهيك عن قدراته العجيبة في معرفة هوية المرسل (القائم بالإرسال) من خلال تشخيص طريقته في الترميز، وأسلوبه في النقر على مفتاح الإرسال، وكان يستلم البرقيات ويرسلها في الوقت الذي يجيب فيه على الاستفسارات الهاتفية. .
يعد (الشـاهين) أنموذجاً رائعاً من النماذج التشغيلية في محطاتنا اللاسلكية، ومن المؤكد أن الكفاءة والجودة والدقة والمهارة العالية كانـت هي العوامـل الـتي ساعدت محطاتنا في إحراز المراكز الأولى على الصعيد العالمي. .
أحيل (العم أبـو سـلام) إلى التقاعد عام ١٩٩٠، لكنه ظل يمارس تدريس اللغة الانجليزية لطلاب المراح المنتهية في التعليم الإعدادي، ويسكن مع عائلته في بيته القديم بالمعقل، ويقضي معظم أوقاته في القراءة والتدريس والترجمة. .
اختفت الآن محطاتنا اللاسلكية الساحلية، واختفت أبـراجها وصواريها ، واختفت معها محطات السيطرة الملاحية الموزعة على امتداد شط العرب في الفاو والواصلية، ولم يعد للمرسلات العملاقة أي وجود في الزمن الذي صارت فيه الأقمار الصناعية هي المحطات الفضائية للتواصل الرقمي المباشر بالصوت والصورة بين جميع النقاط الساحلية المنتشرة حول العالم. .
رحم الله العم ابو سلام وتغمده الله بواسع جناته، والرحمة موصولة لكل الذين عملوا في محطاتنا اللاسلكية في العصر الذهبي للموانئ العراقية. . .