بقلم : حسن المياح …
《 الجزء الثاني 》
قلنا أن الإرتباط من حيث الكينونة الحقيقية للإنسان هو واحد ، وهو حاجة فطرية للإنسان أن يستند على قوة ضخمة شديدة غنية تكفيه صلاح وجوده الإنساني المتحضر المتطور صعود إرتقاء وإنفتاح ونماء وثراء . وهذه القوة هي الإله الذي ينتمي اليه الإنسان ، وعلى أساس ما يختار الإنسان تلك القوة ، يكون الإرتباط . فالإرتباط الأساس هو حاصل في فطرة الإنسان ، ولذلك قلنا أن الإرتباط من حيث الكينونة الحقيقية للإنسان هو واحد . وهذا الإله الذي يرتبط به الإنسان وفقآ للفطرة النظيفة النزيهة الطاهرة هو خالقها ، وهو الله سبحانه وتعالى . والإطلاق الذي نتحدث عنه هو من أساس سماته وتميزاته الذاتية التي تشمل كل أسماءه وصفاته وأفعاله ، ولذلك نقول عن الله سبحانه وتعالى بأنه المطلق ، والذي يعني الشمول والإستغراق والإستيعاب ، وما الى ذلك من إطلاقات ثبوت جلال وكمال ، تجعله المتفرد من حيث الوجود الواجب بالذات ، وأنه علة العلل ، وسبب الأسباب ومسببها ، وأنه لا سبب له يسببه سبقآ زمنيآ أو مكانيآ أو حال مرحلة ، لأنه الغني بالذات ، وأنه مسبب الأسباب ….. وهذا هو الإله الحق المعبود المطلق الذي يستوعب مسيرة الإنسان الحضارية ، ويزوده بكل الطاقات والإمكانيات والإرشادات والتوجيهات التي يحتاجها الإنسان في تطور وصعود وإرتقاء سيره الإنساني الحضاري بكل ما للمدنية من مميزات وخصائص ……
وكما قلنا سابقآ أن الإنسان خلق في أحسن تقويم ، وأنه منح حرية الإختيار ، فهو الذي يختار الجهة والقوة التي يأوي اليها ، ويطمئن ، ويتخذ منها إلاهآ ، لقناعته أنها القوة المطلقة التي تزوده بكل الطاقات والإمكانات التي يحتاجها في مسيرته الحضارية . وبما أنها حرية إختيار للإنسان ، فالمسؤولية تقع عليه هو وحده ، وهي محاولات تجارب يمارسها الإنسان ، لعله يحظى بضالته المنشودة التي يبحث عنها ، ويريدها ، وهو المحتاج اليها لتكون الإله الذي يقود مسيرة حياته الحضارية الصاعدة إرتقاءآ وإنفتاحآ وقيادة إستقرار وسعادة …
والإختيار الإنساني الصحيح الدقيق هو الذي ينجيه إيواءآ وإستنادآ الى إلاه حق مطلق يقود مسيرته الحضارية الصاعدة الهادفة بأمن وأمان ، وسعادة وإستقرار ، الى أن يوصله الى غايته التي تعتمد على قدر كدحه وعمله الصالح الذي يرفعه ويزكيه ، وعند تلك الغاية يكون قد إستوفى الإنسان حقه ، وحصل على كل ثماره من خلال كدحه الصالح المبذول طيلة عمله وجهده المثابر في حركة سيره الحضاري المتواصل ، وأنه لاقى ربه الإلاه هناك ، ووجده في النقطة التي توقف عندها كدحه وعمله ، لأن عمره الزماني الدنيوي قد إنتهى ، وأنه قد إدخر هذا الرصيد والخزين الى حياة أخروية خالدة في عالم جنان خلد الله سبحانه وتعالى ، ويكون الإنسان قد فاز ، لما إختار المطلق الحقيقي الصحيح الذي يقود مسيرة حياته الإنسانية الحضارية ، وأن عمله هو كدح صالح ، رفعه درجات في سلم مسيرة التطور الحضاري بكل سلاسة مدنية ، وهدوء وإستقرار حال يبعث فيه واليه الطمأنينة ، خلال الكدح في خط إستقامة حركية مسيرة التطور والتكامل الحضاري الإنساني المغيا الهادف …..
وحرية الإختيار الخاطيء للإنسان الذي يجعل من الإنسان أن يستند خطأ الى إله محدود ، لا إطلاق له ، ولا فيه ، ويتخذ منه قيادة مسيرة حضارية صاعدة مستمرة متواصلة دائمة ، يكون هو الإنسان الذي قد أخفق وفشل في الإختيار ، وأن هذا الإختيار هو محض وهم ، وأن هذا الإله سينقلب عليه بعد ما إتخذه له عونآ ، فإنه سيصبح عليه فرعونآ ، ومشكلة ، وعقبة ، وحاجزآ يمنع تقدم مسيرته الحضارية الصاعدة ، لأن هذا الإله سيفلس في بداية الطريق ، لنفاد موجوداتها التي هو عليها ، ويملكها ، وأن المسيرة الإنسانية الحضارية مستمرة الحركة والصعود ، وتحتاج الى وقود دائمة ، وطاقة مستمرة متواصلة ، وأن الإنسان الذي يواكبها مسيرة وجود حياة مدنية متنامية متطلعة يحتاج الى وقود ديمومة وطاقة إستمرار حركة ، وأن مصدر الطاقة الإله المصطنع المتخذ ربآ وقائدآ للمسيرة قد نضبت خزائنه منها ، وأفقر تمامآ منها ، وأصبح هو محتاجآ لطاقة تديم إستمرار وجوده في الحياة ، وإذا به هذا الإله قد أملق ، وأصبح هو في حالة إحتياج ، وعليه أن يبحث عن مصدر يزيده ثروة موجودات طاقة ليشحنه بها ، حتى يواصل المسيرة …. وبذا يصبح هذا الإله المصطنع المزيف هو مشكلة للإنسان ، وأنه العقبة والمطب والحاجز والمانع ، لأن الإنسان قد أوقع نفسه في حضن من هو محتاج مثله الى من يحتضنه ويزوده بكل ما يحتاج ، ويديم زخم وجوده الفاعل المؤثر في دفع عجلة مسيرة الإنسان الحضارية ، وإذا به هو العقبة التي تقف بوجه الإنسان الذي تحجز وتعيق مسيره ، وتوقف وتمنع تقدمه الحضاري ، بعد ما أراده الإنسان له ربآ خالقآ غنيآ مزودآ بالطاقة ، وقائدآ مرشدآ دافعآ لحركته الحضارية الصاعدة …..
وإذا به هذا الإله الرب المصطنع المزيف بعد نفاد ذخائره وكل خزائنه ، تحول الى مطب عرقلة ، وحاجز منع ، وأنه دكة ركود ورقود ، لا تسمع منه حسيس حركة ، ولا يصل الى سمعك منه نسمة إستنشاق هواء ، ولا يؤذيك منه زفير عادم إحتراق أوكسجين طلقآ نقيآ ……. فإنه قد تحول من إله خالق مطلق الى مألوه مخلوق جامد لا يريم حركة ، ولا يحرك حتى ما سكن من ريح نسمة هواء شم إستنشاق …
ويمكن للإنسان — لأنه منح حرية الإختيار — أن يتقلب ويمارس تجارب تحول من إله مصطنع مزيف متخذ الى آخر ، عندما تنضب طاقات كل إله يتخذ زيف إصطناع لإعتقاد ، حتى لا تتوقف مسيرة الإنسان الحضارية ، وبذلك هو الإنسان الحر المختار يجوز لنفسه أن يكرر وينوع الإختيار بما له من منح حرية ، وهو يظن ، بل يعتقد أن له الحق عندما يغير ويبدل الإختيار ، الى أن ، وعسى ، ولعله ، يجد إلألاه الذي هو مناه ، ويستقر عنده ويستكين اليه ….. ، ولا يمكنه العثور على إلآلاه الذي هو مناه المطلق ، لأنه يبحث ويفتش عن آلهة من عالم الإمكان القاصر المقيد المحدود ، الذي لا نسمة طاقة لأي نوع من الإطلاق فيه ، حتى يستوعب المسيرة الإنسانية الحضارية الى نهاية خط شوط الوجود الإنساني في عالم الحياة ، بإعتبار أن الممكن — لا يصل ، بل لا يرتقي ولا يدنو ، بل والأكثر والأوكد جزمآ وحسمآ وقطعآ أنه لا يحقق ولو جزءآ ضئيلآ من مليارات أجزاء الإطلاق التي لا تنضب ولا تنتهي ، والتي لا يشم منها رائحة النفاد والخلاء — محدود ومقيد ، ومعدود ومحسوب ، ومعلوم ومعروف …. وان الإطلاق مفتوح متنام متكاثر ، كلما أخذ منه إزداد ثراءآ ، ونما وتكاثر ، كما هي الحفرة التي تتناولها المساحي والفؤوس ، تزداد عمقآ وإتساعآ …..
أقول أن هذا الإنسان الحر المختار ، الممارس المتحول ، المغير الإلاه المتقلب الرب ، هو في تيه وضياع ، وأنه صيرورة وجود تائه ضال ، لا فائدة من تخبطه وعبثه ، وتنقله وترحاله ، وممارساته وتجاربه ، لأنه يجتر ولا يبحث عن جديد ليس من جنس ما إجتره وكرره ومارسه من إختيار آلهة ، لأن الإلهة المصطنعة كلها وجميعها في عالم الإمكان الذي نحن فيه ، ونعيشه حياة إنسانية في وجود آدمي ، هي آلهة قاصرة ضعيفة ، محدودة مقيدة ، مرحلية زمان ومكان ، عمرها قصير وخطرها جسيم كبير عظيم ، لأنها تقود الإنسان الى التيه والضياع ، والى العشوائية واللاإنتماء ، والى التذبذب واللاراحة واللاإستقرار ….. فكيف تحافظ المسيرة الإنسانية الحضارية على إستمرارية الحركة الصاعدة ، ودوام الإبداع الخلاق تطورآ وإرتقاءآ ونماءآ ، والإلاه المصطنع المزيف الكاذب المتخذ مصدر تمويل ، وقائدآ للمسيرة الإنسانية الحضارية ، هو العاجز عن الإستيعاب للمسيرة لتواصل سيرها الصاعد ، والضعيف الذي لا يزود بوقود الحركة لأنه فاقدها ، الخلاء الناضب منها ، ولا بالطاقة التي تديم إستمراية التحرك والصعود والنماء ، وهذا الإلاه المصطنع المزيف هو خواء منها ولا يملكها ، بل هو بحاجة الى وقود وطاقة ليديم وجوده ليواكب المسيرة الحضارية للإنسان …. وفاقد الشيء لا يعطيه ، ولا يقدمه ، فضلآ عن أن يمنحه ،أو يزوده ……
حسن المياح – البصرة .