بقلم : فالح حسون الدراجي …
افتتاحية جريدة الحقيقة رحل الجواهري الكبير، ثم رحل البياتي، وسعدي يوسف، وعبد الرزاق عبد الواحد، ولميعة عباس عمارة، ورحل أيضاً عمو بابا، واحمد راضي وعلي كاظم وعبد كاظم، ورحلت زها حديد، ومحمد سعيد الصگار، وفؤاد سالم، وقبلهم وبعدهم رحلت قمم أدبية وفنية وعلمية واقتصادية عراقية كثيرة، كنا نباهي العالم بفنونها وقدراتها، ونفاخر الدنيا بعبقرياتها، فكانوا مصدر فخرنا أمام أشقائنا العرب وغير العرب. وللحق فقد كان العراقيون ينبوعاً لا يجف في ميادين الخلق والإبداع، وكان العراق منجماً للمواهب الكبيرة والأسماء الإبداعية الفخمة، فكان مبدعونا مشاعل تنوير في مسيرة الثقافة والحياة والجمال الإنساني.. ولعل الجميل في الأمر أن مبدعينا الأفذاذ لم يزرعوا إرثهم العظيم في أرض العراق فحسب، إنما ذهبوا به الى عواصم ومدن العرب أيضاً، بل أن بعضهم حفر اسمه على لوائح المجد مع كبار العلماء والأدباء في العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر هنا عالم الأنواء الجوية (العماري) عبد الجبار عبد الله، الذي وضعت له أمريكا تمثالاً نصفياً عند مدخل إحدى جامعاتها، اعترافاً بعلمه ودوره الكبير في تطوير علوم الأنواء الجوية في أمريكا والعالم. ولأن العراق كنز من اللآلئ والجواهر الفنية الإبداعية النفيسة، فإن عطاءه لم يقتصر على الشعر فقط، إنما امتد الى المسرح والموسيقى وفنون الرسم والتشكيل.. لذلك كان لنا الحق في أن نواسي أنفسنا بعد كل فجيعة برحيل واحد من هؤلاء الكبار، وأن نرفع سقف آمالنا عالياً، ونقول لبعضنا بثقة تامة: ( لم يزل الكنز العراقي لامعاً، مليئاً بالجواهر الابداعية). ولكن، حين تلاحقت فواجعنا واحدة أسرع من الأخرى، وتوالت خسائرنا الجسيمة بفقدان كبار مبدعينا واحداً تلو الآخر، أصيب البعض منا بالإحباط، واليأس، لكن وبمجرد أن نتذكر أن لدينا شاعراً كبيراً مضيئاً ساطعاً اسمه مظفر النواب، يسكن قلب العراق، وإن غادر أرضه، وهو على قيد الحياة والشعر والجمال، حتى يعود الينا الأمل، والفرح، والثقة، فننسى وجعنا بفقد هذا المبدع أو ذاك، فالنواب بمثابة بحر كبير، نجد فيه (العوض) عن موت وجفاف الكثير من الأنهار العراقية، فنعزي بعضنا البعض، ولسان حالنا يقول (البگه براس أبو عادل)! ولا أكشف سراً لو أقول، إننا كنا نتبادل كلمات التفاؤل والثقة بالعراق الكبير المعطاء، عبر كلمة السر التي كان عنوانها ضمناً: (مظفر النواب)! نعم، فقد كان وجود أبي عادل على قيد الحياة، والثورة والإبداع، كافياً لإلهامنا وتشجيعنا في المضي نحو الأجمل، وكان احساسنا بوجوده – حياً – دافعاً كبيراً للفخر به، وبأنفسنا، وبعراقنا الثر . وكي أكون واضحاً فيما أقوله في هذه الافتتاحية، يتوجب عليّ أن أعترف أننا كنا نتكئ على عراقية النواب وعلى فخامة اسمه القوي، سواء أكنا في عمان أو دمشق أو القاهرة أو دبي، أو بيروت، أو رام الله، أو تونس، أو الرباط، أو حتى في باريس أو لندن أو هافانا، أو في عاصمة بابلو نيرودا (سانتياغو)، لقد كنا نرفع رؤوسنا عالياً في هذه العواصم، وفي غيرها دون شك، لأننا من بلاد أنجبت جيفارا العرب وشاعرها الثائر مظفر النواب. مرة أخرى، أقول، بعد كل خسارة يتعرض لها العراق في واحد من كبار مبدعيه، كنا نحزن كثيراً، لكن نافذة الأمل والثقة ظلت مفتوحة، ولم نجدها يوماً مغلقة بوجوهنا، مادام قلب النواب كان ينبض بالحياة، فنمد من خلالها أبصارنا نحو زرقة السماء، ووهج النجوم الملونة، ثم نبتسم، ونمضي ثانية في دروب الجمال وفضاء الإبداع ..
لكن اليوم، وبعد رحيل النواب، وفي ظل تراكم الخسائر، وازدياد قوافل الرحيل المفجع لكبار المبدعين العراقيين، لم تعد لدينا أسماء عالمية رنانة، نجبر بها الأعداء والأصدقاء على الإعتراف بعظمة العراق كبلد منتج للثقافة والإبداع الإنساني، فتغلق تلك النافذة التي كنا نطل من خلالها نحو الدنيا، ويهدم ذلك الجدار القوي الذي كنا نتكئ عليه، وهنا يحق لي أن أتساءل بألم وحزن: ماذا بقي لدينا بعد رحيل النواب، وبمن سنفاخر ونباهي غداً لو أحرجني شرطي أردني جلف في أحد مراكز عمان، وهو يحاول إهانة كرامتي بعد ان يعرف جنسيتي طبعاً، إذ كيف سأخرسه ساعتها، وبماذا سألجمه بعد غياب سيفنا وبيرقنا (النواب)؟ المصريون مثلاً يتباهون بعادل إمام، وباللاعب محمد صلاح، والسوريون يفخرون بدريد لحام، والاماراتيون يفخرون بمنجزات قيادتهم الحكيمة، أما القطريون فسيفخرون طويلاً بتنظيمهم لكأس العالم، وثمة دول عربية أخرى لديها الكثير الذي تتباهى به، وهنا أذكر أني كنت في بيروت قبل فترة، وكنت أتناول فطوري في مطعم الفندق، ومع الفطور رحت أستمع للسيدة فيروز، فأحببت أن أمازح النادل اللبناني، فقلت له: بمن ستفاخرون لو ماتت غداً فيروز لاسمح الله؟ فأجابني دون تأخير: نفاخر بالسيد حسن نصر الله ! فقلت له: من أي طائفة أنت؟ أجابني قائلاً: أنا مسيحي! قلت له: مسيحي، وتفتخر بنصر الله؟ قال: نعم: أنا أفتخر به وأحبه، وكذلك السيدة فيروز تحبه أيضاً، فهو الذي حرر أرض لبنان من الاحتلال الصهيوني.. فابتسمت له مقدراً له وطنيته ومحترماً مشاعره- بالمناسبة هناك قصيدة رائعة لمظفر النواب كتبها حباً في السيد حسن نصر الله- كنت أبتسم لذلك الشاب اللبناني، وأنا حزين في الوقت ذاته، إذ لم يبارحني السؤال: بمن سيتفاخر العراقيون لو مات غداً مظفر النواب، فلا عندنا عادل إمام ولا دريد لحام، ولا قيادة حكيمة، ولا كأس العالم .. ولا سيد حسن نصر الله؟!