بقلم: كاظم فنجان الحمامي ..
مما لا خلاف عليه ان العراقيين كانوا أول من استعان بالفنارات والمنائر البحرية، ونشروها على الخطوط الساحلية لحوض الخليج العربي من البصرة وحتى مضيق هرمز، وكانت تهتدي بها السفن لكي تضمن وصولها بسلام إلى بر الأمان. وكانت الفنارات المقامة على خور عبدالله عبارة عن أعمدة خشبية عالية الارتفاع، يمكن مشاهدتها من مسافات بعيدة في عرض البحر، وتضاء ليلا بإضرام النيران، عن طريق إشعال المحروقات الطبيعية التي كانت توضع في شبكة معدنية كبيرة مثبتة فوق كل عمود. فالحديث عنها ذو شجون، ويحتاج إلى الغوص في أعماق التاريخ الملاحي لبلاد ما بين النهرين. لكننا سنكتفي هنا بالحديث عن الفنارات التي أضاءت الممرات الملاحية المؤدية إلى موانئنا، ونورت مياهنا الإقليمية في القرن الماضي..
فقد كانت بمثابة علامات مضيئة ترسخت في ذاكرتنا الملاحية، وطبعت صورتها على صفحات الخرائط الملاحية الأدميرالية، وغرست قوائمها في أعماق مياهنا الوطنية. وكانت شاهدة على سيادتنا البحرية المتأصلة في أغوار الخليج العربي، وفي مدخل خور عبدالله، ومقتربات شط العرب، وسواحل الفاو، وكانت مياهنا الإقليمية ومسطحاتنا المائية تتحول في الليل إلى كرنفال يسر الناظرين، ويزين الآفاق البعيدة بالأنوار المتألقة بكل الألوان المتلألئة في الفضاءات البحرية المشبعة بعطر البحر. .
فنارات من كل صنف تشترك في عزف سيمفونية لونية متناغمة مع متطلبات حركة السفن المتحركة في المسالك الملاحية، وكانت أنوارها تنبعث باتجاهات محددة، وتتراقص بإيقاعات مدروسة بعناية. وكانت بألوانها وبحزمهـا الضوئية وبتكرر ومضاتها، تحمل من المعاني والمفاهيم والتوجيهات التي لا يجيد قراءتها وفك رموزها إلا الملاح المتمرس. فلكل حزمة ضوئية دلالة رمزية تستدل بها السفن في ضبط وجهتها وتحديد مسارها الصحيح. .
كانت الفنارات العراقية في خور عبدالله هي التي ترسم على سطح الماء معالم الطريق الذي تسلكه السفن، وهي التي تحدد مواقع تغيير المسار الذي سلكته السفن، وتؤشر المواقع المحفوفة بالمخاطر، وتعطي قراءات دقيقة لارتفاع مناسيب المد والجزر، وكانت لدينا فنارات أخرى تعطي الأذن بالحركة، وأخرى تعطي الإشارة بغلق القناة الملاحية بوجه السفن السائرة باتجاه معين، بينما تسمح للسفن السائرة في الاتجاه المعاكس مواصلة الإبحار. .
ولو نظرت إلى مواقع تلك الفنارات فستحسبها مبعثرة في عرض البحر، أو أنها مثبتة بطريقة عشوائية على جانبي الممر الملاحي. لكنها في حقيقة الأمر وضعت في أماكن مدروسة بعناية، ولا تحتمل أي خطأ. فقد تم اختيار أماكنها استنادا إلى أدق الحسابات الهندسية، والقواعد الملاحية. .
كانت مسطحات خور عبدالله مؤثثة بأحدث الفنارات المبنية وفق أرفع الأسس العلمية الصحيحة. وكانت تخضع للصيانة اليومية بإشراف فرق متخصصة في هذا المضمار. يساندها أسطول من الزوارق والسفن الخدمية المصممة لهذه الغاية. بدأت عام 1919 بالسفينة (نياركوس) وانتهت بالسفينة (النسر).. وتميزت الفنارات العراقيـة بنظامها الملاحي المتكامل، وبتصاميمها الفريدة، وبحسن أدائها وكفاءة عملها. وكانت منسجمة تماما مع طبيعة مسطحاتنا البحريـة وممراتنـا الملاحية. وانفردت قناة خور عبدالله، التي تمثل المدخل الرئيس لموانئنا، بكثافة فناراتها التي رسمت المسارات الملاحية عبر المياه الوطنية العراقية. وأشادت بها جميع الهيئات البحرية الدولية، وشركات خطوط الشحن البحري ، أما أشهر الفنارات العراقية فهو فنار شط العرب SHATT AL ARAB LIGHT VESSEL الذي كان يرسم حدودنا السيادية في عرض البحر، ويقف بشموخ في منتصف شمال الخليج العربي، ويحدد أقصى نقطة جنوبية من مياهنا الإقليمية. .
ونذكر أن صورة الفنار التي كانت مثبتة في كتاب (Admiralty Pilot Book) التقطت له عام 1930، وتظهر فيها السفينة العراقية التي كانت تحمله على ظهرها، وقد كتب عليها اسم شط العرب بالحروف اللاتينية: (SHATT-AL-ARAB). .
وسوف نختم حديثنا عن خور عبدالله في الجزء القادم الذي يحمل الرقم (20) ان شاء الله. .