بقلم: فالح حسون الدراجي ..
كيف زار (كارل ماركس) مدينة الثورة وتناول السمك في أحد بيوتها ..!
افتتاحية جريدة الحقيقة
بدءاً أقول: إن هذا المقال ( قد ) ينتمي الى أدب الفنتازيا، من جهة تحرره من قيود المنطق والشكل والإخبار، والاعتماد على إطلاق سراح الخيال في مواقع معينة. لكن أدب الفنتازيا كما معروف، يتناول شخوصاً غير واقعية وخيالية محضة، وغرائبية أيضاً، أو يصور عالماً يخضع لقوانين فيزيائية لم تُكتشف بعد، وهذا يتنافى مع ماهية المقال.
إذ إن مقالي هذا يروي أحداثاً وشخوصاً وتاريخاً معروفاً، ويكشف عن وقائع حقيقية، قد عشت لحظاتها لحظة لحظة، رغم أن عنوان المقال ينطوي على شطحة (زمكانية) صارخة، لكن الحقيقة التي يجب ذكرها للقارئ، أن الحدث الذي ارويه هنا، حصل قبل اكثر من نصف قرن، وقد قمت بتسجيل تفاصيله وصوره وأمكنته، واسماء شخوصه في ذاكرة قلبي الموصدة بارقام الحب السرية.
لذلك لم يقدر النسيان بكل ما يملك من طاقة على مواجهة هذا الحدث، أو حتى الاقتراب منه، وها انا أسلط عليه الضوء لأستعيد تفاصيله عبر الاسترجاع (فلاش باگ) ..
فما هو هذا الحدث الهام الذي قهر النسيان ؟
في ضحى يوم من أيام آذار الباسم، كنت أقف في ذلك الطقس الربيعي البديع مع بعض الأصدقاء قبالة بيتنا، وتحديداً خلف ماكنة الطحن العائدة للحاج شندي – والد الصديقين جبار وعيسى- وهو المكان الذي اعتدت فيه الوقوف برهة من الوقت كل صباح، ألتقي بعض الأصدقاء قبل أن نمضي الى مشاغلنا مسرعين، وفي الوقت ذاته، أحاول أن أستغل تلك اللحظات المعدودة للفوز بنظرة أو لمحة سريعة من ابنة ( أبو عباس الصابئي)، وهي تنشر غسيل الملابس على حبال السطوح، أو لعل ظلها يخطف خلف الستارة الشفيفة، فينعكس خيال منها على زجاج النافذة مردداً مع شاعر الصوفية “الحلاج” هذه الابيات من رائعته السينية الشهيرة :
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت .. إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي ..
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم .. إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي ..
وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ .. إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأس !
نعم، فقد كنت هائماً في هوى تلك الفتاة الصابئية البريئة الوديعة (الناحلة)، التي لم تكن تدري بحبي، ولا أظنها ستدري به، حتى لو عاشت الف الف عام !
في تلك اللحظة الربيعية، التي كنت فيها مأخوذاً بفتنة الصباح، وازدهار الشمس المشرقة في السماء، ومفتوناً بزهو شبابي، وروعة الحياة .. في تلك اللحظة الفارقة التي لن أنساها أبداً، توقفت فجأة قربي سيارة (فولغا) بيضاء، ونزل منها شقيقي (خيون)، ثم اقترب مني هامساً: فالح ارجو ان تنتبه جيداً لما سأقوله لك الان: عندنا ضيف استثنائي اليوم، وهو معي في السيارة، لذا أريدك أن تذهب للوالدة بسرعة ليجهزوا لنا غداءً فاخراً، وقل لها أن تفرش السجادتين الجديدتين .. وبصوت خفيض أكمل طلبه قائلاً: (وخلي البنات يكنسن وينظفن الحوش زين، بعد ساعتين بالضبط راح نكون بالبيت). وقبل أن يكمل كلامه معي أدرت بصري نحو السيارة لأرى من هذا الضيف المهم، والاستثنائي .. وإذا بي أجد رجلاً ضخماً ذا لحية كثة وطويلة، في البدء ظننته الصائغ (عمارة الصبي)، لكني صدمت حين اقتربت منه وتأكدت لي شخصيته، يا الهي إنه (كارل ماركس)، متى جاء هذا الرجل الفذ الى العراق، وكيف وصل الى مدينة الثورة، وكيف تعرف على خيون؟
لكن شقيقي هزني من كتفي بلطف، وهو يقول لي: فالح سلّم على الرجل بسرعة، نريد نروح.. !اقتربت من السيارة، وقلت له بانجليزية لا بأس بها:
Welcome, Mr. Marx
فضحك خيون وقال: عمي
(يا ول كوم يا مستر)، الرجل يعرف عربي، ويحچي عراقي مثلنا !
لكن ماركس ابتسم لي وقال بعربية صافية: أهلاً وسهلاً بك !
فقال له خيون هذا أخي فالح وهو أيضاً شيوعي وعضو في اتحاد الشبيبة.. ابتسم لي ماركس محيياً، وقبل أن أهمّ بمصافحته، اوقفني خيون وهو يناولني (دينارين) ويقول مازحاً: (ترى عمنا ماركس يحب السمك جداً، فاذهب الى سوق (مريدي) واجلب لنا سمكتين كبيرتين، مع اللوازم الأخرى.. وخلي الوالدة تسگفهن بالتنور).. ثم ركب السيارة، ومضى !
ابتعدت السيارة عني، لكني بقيت دائخاً، وحائراً في هذه الاشكالية التي عجزتُ عن حلها: ماركس في (الثورة)، ويطلب سمكاً، سيارة فولغا يقودها خيون وهو الذي لم يقد سيارة في حياته، ما هذا الفيلم الهندي؟
وحين تعذر عليّ العثور على أجوبة لهذه الاسئلة.. غادرت مسرعاً الى بيتنا الذي لم يكن يبعد اكثر من 400 متر، دخلت على الوالدة، وقلت لها: يمه خيون عنده اليوم خطار ، ويريد غده مميز، يكون بيه سمچ، ولازم يجهز الغده خلال ساعتين فقط، فالرجل جاي من سفر، وأكيد هو متعب وجوعان!
سألتني أمي عن الخطار، فقلت لها: واحد عزيز على خيون كلش.. !
فقالت: منو هذا العزيز؟
قلت لها: أنتِ احزري منو؟
قالت: صديقه حميد ناصر الجيلاوي، جاي من الكوت
قلت : لا
قالت: هاشم چلاب مو ؟!
قلت لها: لا
قالت: سلمان المنكوب؟
قلت : لا ليس المنكوب !
قالت: چا ياهو خايبين؟
قلت لها : كارل ماركس مؤسس الشيوعية في العالم!
فقالت بدهشة وذهول: منهو ؟
قلت لها: ماركس ماركس.. وروح أمچ ماركس بشحمه ولحمه وعظمه..
فقالت أمي بتلك اللهجة الجنوبية العذبة، وقد امتلأت عيناها بالفرح:
هله ومية هله بيه، يبشر .. شرخص من السمچ واغله من الخطار ؟!
لم استغرب فرحة أمي بقدوم ماركس الى بيتنا، فقد كانت – وهي التقية الورعة التي تقرأ القرآن كل مساء، وكذلك والدي، ذلك الشخص المؤمن، والرجل الصالح، الذي لم يتأخر عن صلاته فرضاً واحداً، مذ كان صبياً وحتى رحيله في التسعين من عمره- كلاهما كانا يحبان الشيوعيين جداً، ولأسباب عديدة، ربما لأن ولديهما شيوعيان، او لأنهما التقيا بعدد من الشيوعيين، وتعرفا – بالتجربة- على اخلاقهم ونزاهتهم ونبلهم، أو ربما لأن والدي ووالدتي ذاقا مرارة الفقر والعوز، فأحبا المناضلين الشيوعيين الذين كانوا يرتقون اعواد المشانق بشجاعة دفاعاً عن الفقراء
لذلك أعدت أمي، المرأة المعروفة بكرمها بين الأصدقاء والمعارف، وليمة الغداء بطيب خاطر، واكملت كل شيء قبل أن يأتي ولدها وخطاره.. وحين دخلا، وجدا كل شيء جاهزاً، فقد كان البيت نظيفاً منظماً، والسجادتان الجديدتان مفروشتين، والغداء حاضراً، وامي تقف مزهوة فخورة باختيار (مؤسس الشيوعية) الغداء في بيتها دون بيوت الآخرين.. وما أن أطل ماركس بطوله الفارع والفخم، حتى هرع اليه الوالد مستقبلاً، وخلفه الوالدة، وهما يرحبان بالضيف بأجمل عبارات المودة، حتى تكاد تشعر أن كلمات الترحيب تلك قد تزاحمت وتدافع بعضها مع بعض عند طرفي لسانيهما.. !
اقتربت مني الوالدة وشاورتني قائلة: أگلك يمه، هو ماركس أبو من يسمونه؟
قلت لها: أبو جيني، بنته الكبيرة اسمها جيني!
وهنا وقف سيد محمد وقال له: رفيقنا .. نريد أن نسمعك شعراً إذا لم يكن لديك المانع في ذلك؟
فقال ماركس: بالعكس أنا أريد سماع الشعر، لاسيما الشعر الشعبي .. فنهض غالي ابو اخلاص، وقدم الشاعر كريم العراقي في قصيدة مذكرات عامل منفي، فقرأ كريم هذه القصيدة العمالية المؤثرة وحين وصل الى البيت الشعري الذي يقول فيه: ( وحگ من يعرگ العامل على الآلة ثمن ساعات)، نهض ماركس وصفق له بحرارة قائلاً: ياسلام .. ما هذا القسم العظيم الذي يقسم به هذا الشاعر ؟
بعد قصيدة كريم، قدم الكاتب أبو اخلاص الشاعر كاظم اسماعيل الگاطع، وما أن قال كاظم: اقرأ لكم (قصيدة رسالة أم)، حتى أوقفه ماركس متسائلاً: عفواً أيها الشاعر الكاطع، هل هذه القصيدة من أشعارك أم من أشعار مظفر النواب؟
وقبل أن يجيبه الكاطع، صاح الحضور جميعاً: هي للكاطع للكاطع وليس للنواب.. فاعتذر ماركس قائلاً: آسف لا اعرف لماذا تصورتها من شعر النواب.. فقال كاظم: شرف كبير لي أن تنسب احدى قصائدي للنواب الكبير.. ثم أكمل ضاحكاً: لعظمة وشاعرية (أبو عادل) صارت تنسب اليه كل القصائد الجميلة، وهذا ما حصل قبل الف عام مع جحا أيضاً، حين راح الناس ينسبون اليه كل النوادر القوية !
وما أن انتهى كاظم الكاطع من قراءة قصيدة الأم، حتى طلب ماركس من الشاعر عريان السيد خلف أن يقرأ له وللحضور بصوته والقائه الجميل قصيدة ( نذر)، فنهض عريان وقال صار رفيق : ” ادگ روحي نذر للجايب بشارة ..
فصاح ماركس بصوت أجش : واورجه اعله الجروح المالهن چاره ..
فقال عريان:
جرح ينزف .. جرح باني .. اعله بسماره .. خجل .. والمايخاف اللوم.. يرضه ابذلته وعاره ..!
وما أن انتهى عريان من قراءة قصيدة (نذر)، حتى نهض العامل موحي أبو رجاء موجهاً كلامه الى ماركس قائلاً: رفيق، كتاب (رأس المال) جداً صعب، بحيث قرأته مرتين وما استوعبت منه الا القليل، خاصة موضوع ( فائض القيمة)؟
فقال له ماركس: نعم هو صعب إذا قرأته بدون تركيز معمق، وفهم لطبيعة الصراع الطبقي، أما فائض القيمة.. وهنا يقاطعه العامل گاطع (أبو انجيلا) قائلاً: تسمح لي رفيقي اشرح له فائض القيمة؟
فاومأ له ماركس برأسه موافقاً، فقال (أبو انجيلا):
لقد كانت ثمرة دراسة الرفيق ماركس الملموسة للمجتمع الرأسمالي في انجلترا هي اكتشاف نظرية (فائض القيمة) التي شكلت حجر الزاوية لنظريته الاقتصادية، والتي اعطت الاشتراكية طابعاً علمياً، واوضحت للطبقة العاملة سر الاستغلال الرأسمالي الذي يقوم على استحواذ الرأسماليين على العمل غير مدفوع الأجر ..
ثم قال مبتسماً: مو تمام كلامي رفيقنا؟
فاجابه ماركس مؤيداً: نعم، كلامك تمام رفيقنا !
وحاول (أبو انجيلا) ان يواصل حديثه ويستفيض في شرح (فائض القيمة)، لكن حسن عليوي أو حسن (الخفاجي) علق عليه بصوت سمعه الجميع، قائلاً: احنه شلون بـ (آدم سميث)، غير كون يسكت ويگعد !
فابتسم گاطع ابو انجيلا، وهو يرمق حسن بنظرة معاتبة، لكن حسن طيب خاطره قائلاً: أحسنت أبو انجيلا وأجدت، يظهر حضرتك دارخ القيمة وفائضها درخ؟
فابتسم ابو انجيلا مؤيداً !وهنا تقدم الفنان الشعبي بشير الخزاعي، حاملاً بيده عوده، متخطياً الصفوف وهو يقول ضاحكاً : من رخصة (فائض القيمة).. في هذه المناسبة التي لن تتكرر في حياتنا، يشرفني انا والشاعر فالح حسون الدراجي، أن نقدم هذه الاغنية أمام المفكر والقائد الثوري العظيم كارل ماركس، وهي عن مؤسس حزبنا الشيوعي الشهيد الخالد فهد، وقبل أن تداعب ريشة الفنان بشير أوتار العود، قال له ماركس: الثورة الاشتراكية تحتاج الى شهداء، من نوع المناضلين الثوريين الأمميين الكبار، مثل كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ وتشي جيفارا، وفهد، وسلام عادل وفرج الله الحلو وشهدي عطية وشفيع احمد الشيخ، وعبد الخالق محجوب، وغيرهم من الذين عبدوا بدمائهم طريق الحرية.. ثم انطلق صوت المغني التقدمي بشير الخزاعي، وهو ينشد: ( فهد يافهد .. كل انسان بالدنيا يمرّه الموت.. وكل شجرة الكبر بيها الخريف تموت .. وكل شي ابهالحياة يموت .. كلشي يموت.. بس موتك أشكن بيه … …… الخ).
بعدها مباشرة نهض الروائي فاضل الربيعي، وقال مبتسماً لا تخافوا، فأنا يقيناً لن أقرأ لكم رواية أو مؤلفاً من مؤلفاتي، لكني أود أن أقدم (للعزيز) ماركس شاعراً موجعاً يكسر القلب ويقطع نياطه حين يتحدث عن الوطن والناس وغربة الشهداء والشعراء.. إنه عواد ناصر!
وقف عواد وبدون تحية، قال بصوته المقهور :
” وطني ليس لي
وأنا لست له
لم يكن وطني منذ خمسة الآف عام
سوى غربة ماثلة
أأدخله مثل لص
وأغادره مثل لص
ولست سوى سارق النار من شرفة الله
إنه وطني
وطني السنبلة
كلما أوشكت أن تتطاول أبعد من قامة النبت
ثمة من ينتضي منجله
فصفق ماركس وقال: الله! بعدها نهض عامل الزيوت موحي ابو رجاء قائلاً:
هل لك يارفيقنا العزيز ان تحدثنا عن كتابك المهم والخطير حول المسألة اليهودية، فنهض الحلاق كاظم أبو ثامر قائلاً: عيني أبو رجاء الله يخليك، الرجل تعبان ودايخ، يريد يرتاح، يسمع شعر، أغاني، مواقف لطيفة، خو مو يروح يشرح لك المسألة اليهودية وطلايبها هسه!
قطع غالي ابو اخلاص حبل السجال بين العامل موحي ابو رجاء والحلاق كاظم ليالي قائلاً: اخوان دعونا من هذا النقاش، واقترح أن نسمع قصة قصيرة، لاسيما وان بيننا الان حشداً رائعاً من كتاب القصة في المدينة، فمن ياترى منهم سيتحفنا بواحدة من قصصه ؟
فصاح القاص عبد جعفر: افضّل أن نسمع قصة من الأخ داود سالم، فقصصه رشيقة ولغته أنيقة، وهي تصلح للقراءة في هكذا محفل ثقافي مهم..
وافق داود على طلب عبد جعفر، في أن يقرأ احدى قصصه، فتقدم الصفوف ووقف على مقربة من (قنفة) ماركس، وقال: ساقرأ لكم قصة قصيرة (جداً جداً)، فنظر اليه رحيم العراقي، وقال له دون ان يبتسم: العفو أبو يوسف .. هاي القصة القصيرة جداً جداً .. شطولها تقريباً ؟
فضحك داود، وقال له: بطولي تقريباً .. هسه
ارتاحيت .. مو رحيم؟ فضحك كريم العراقي من بعد، وقال بصوت خفيض: شوف الخبيث رحيم شسوه.. ما يفوتها أبد، بس داود خوش رد عليه رد.
وبينما كان داود يقرأ قصته وسط هدوء وانصات تام، رن جرس التلفون عند راسي بقوة، فقفزت مرعوباً، واجبت بصوت مرتجف ومخنوق: ألو … ألو ؟!
فقال المتصل، خويه ابو حسون آني عباس أبو آثار، شو مقالتك ما دزيتها لحد الآن، والمصمم منتظرك، يريد يقفل العدد خطيه !
قلت له: اقفلوا العدد، اليوم ماعندي افتتاحية .. عندي ماركس فقط؟
فضحك عباس وقال:
خويه أبو حسون يا ماركس .. شنو القضية؟
قلت له.. القضية حلم.. بس مو حلم (طرگاعة)! .. ضحك عباس غيلان وقال: ياستار ياربي من الطراگيع، خويه أنصحك النوب من تنام اتغطه زين، ترى الدنيا گامت تبرد هالأيام !