بقلم: د.مظهر محمد صالح ..
1- تمهيد:
يمثل الوعي consciousness حالة الادراك بشقين هما : اما الادراك بشي داخل النفس او الادراك لشي خارجي . فبين الادراك من داخل النفس او ادراك القضايا الخارجية ، يمهد الفيلسوف الدنماركي سورين غيرهارد Søren Kierkegaard في النصف الاول من القرن التاسع عشر (بكونه اول فيلسوف وجودي ) لقضية الوعي او الادراك (من داخل النفس )من منطلق انه ظل يتعاطى في أعماله الفلسفية مع كقضية: كيف يعيش المرء “كفرد واحد” ،مقابل ثمة اتجاه اخر يقوم على إعطاء الأولوية للواقع الإنساني الملموس القائم على التفكير المجرد . اذ تولى (غيرهارد ) ابراز أهمية الاختيار والالتزام الشخصي في قضية الوعي تحديداً. ففي هذا الجانب يرى المفكر والأكاديمي العراقي مزهر الخفاجي في قضية (الوعي ) مشتقاً من الفيلسوف (كريجارد)ماياتي:
((كلما زاد الوعي …
زاد اليأس..؟؟
لا أدري ..هل يقع الواعين..
صرعى سلطة الوعي..
أم أسرى وحشته..
ولمَّ التشائم هذا…
أليسَ قلة المعرفة…
تُرسخ ثقافة القطيع..
ولأننا أبناء اليوم..
فالوعي لدينا سلطة..
والجهل بغي وفوضى..
فأختر أيها المگرود..
ساعة مقتلك…
بين سطوة الوعي..
وغلوا الجهل…
وتَذكر قول الشاعر:-
صاحب من الناس ..كبار العقول..
وأترك الجُهال ..أهل الفضول..
وأشرب نقيع السم..من عاقلً…
وأسكب على الأرض.. دواء الجَهول…))
اما المفكر و الاكاديمي العراقي شاكر الكتاب فهو يقترب في مسالة الوعي الى مفكرين عدهم المثقفين الاقل مثالية ، كالفلاسفة سويدنبورج ، وهيجل وفيشت وشيلينج وشليغل ، وهانس كريستيان أندرسن، اذ يرى المفكر شاكر الكتاب قائلا بشان الوعي :(هو ادراك العالم الموضوعي بكل اجزاءه.هذا العالم في تطور مستمر.
الوعي اذن ينبغي ان يتطور مع تطور العالم .
البهائمية لا تسمح بملاحقة التغيرات الجارية بهذا الكون .
العقيدة الجامدة تكبح فاعلية العقل البشري وعلى الضد من قوانين التطور الدائم . يالهول الفرق بين الحضارة والتخلف)).
2- بناءً على ما تقدم تجد ثمة نزعة في تحليل تطور الوعي في المدرسة العراقية في الفكر النقدي ولاسيما في التصدي الى حوارات الديمومة و التغيير في الاجتماع السياسي المشرقي. فالمفكر السياسي ابراهيم العبادي الذي تناول في كتاباته الاخيرة قضية الوعي والتغيير الاجتماعي ومدى استمرار هيمنة الكاريزماتية على المشهد السياسي المشرقي تحديدا مقالته المهمة في صحيفة الصباح البغدادية في 28-11-2022 والتي جاءت تحت عنوان:
المتربصون بالاسلام السياسي
اذ يناول المفكر السياسي ابراهيم العبادي بالنص:
((لم يتوقع السياسي الماليزي الاشهر ، مهاتير محمد خاتمة لحياته السياسية الثانية بالسقوط الانتخابي المدوي ،حينما اخفق بعد 53 عاما في الفوز بالمقعد الانتخابي وفي معقله التاريخي جزيرة لانغواكي .
قبل الانتخابات بيوم واحد كان مهاتير يتوقع تكليفه بتشكيل الحكومة في حال لم ينجح الساسة الكبار المتنافسون في تحقيق الاغلبية ،لكن المزاج الماليزي الجديد خذل السياسي الاقدم في العالم ولم يمنحه شيكا على بياض ،فقد جاء ترتيبه الرابع في منطقته ،وهكذا خسر الرجل الذي يوصف بانه اسطورة ماليزيا وباني نهضتها المعاصرة ،رغم انه بلغ من العمر عتيا (97 عاما ).
لاشك انه درس للساسة والاحزاب وللقوى الاسلامية بالخصوص لكي لاتراهن على شخصية كارزمية وحدها ،فتحصر خياراتها بالرموز بدلا عن السياسات والبرامج والقيم المتجددة ، ومتابعة تطلعات الشارع السياسي ومتطلبات الاجيال الجديدة وانشغالاتها بالمستقبل والحريات والرفاه ،غادر مهاتير محمد السلطة باختياره في عام 2003 لينصرف الى كتابة مذكراته ويلخص افكاره في محاضرات وملتقيات يقدم فيها خلاصة تجاربه الطويلة مذ كان طالبا في كلية الطب حتى تبوأه رئاسة الحكومة والسلطة على مدى مايزيد على العشرين عاما تقريبا (1981-2003) نقل فيها ماليزيا المتخلفة وقتها ومسلميها الملاويين من حالة الجمود والكسل الى المنافسة على زعامة النمور الاسيوية كما يسميها رجال المال والاعلام ،مع الاعتراف طبعا بدور الاقليتين الرائدتين الصينية والهندية في نهضة ماليزيا السريعة ،والسبب في ذلك يعود الى حنكة مهاتير وتخطيطه الذكي وعقله الستراتيجي الكبير فقد صنع سلاما داخليا ونظاما اقتصاديا نشطا ومنتجا وفعالا مركزا على الاستثمار والتعليم ودعم قطاع الاعمال والابتكار .
عاد مهاتير 2018 ليترشح على قائمة المعارضة التي كان يزدريها ابان حكمه ليسقط زعيم الحزب الذي خلفه في الحكومة نجيب عبدالرزاق ،وهو حزب الجبهة القومية الملاوية المتحدة ، حزب المسلمين الاول الذي قاد معركة الاستقلال عن بريطانيا والمشهور باسم (امنو )،لكن الحزب الذي حكم البلاد 60 عاما شاخ وضربه الفساد في اعلى هرميته السياسية ،ونجح مهاتير عام 2018 بالاطاحة برئيس الحكومة المتهم باختلاس اموال صندوق الاستثمارات السيادي الماليزي لينتهي به الحال سجينا هو وزوجته ومصادرة امواله بعدما حكمتهما المحاكم بالسجن طويل المدة (12سنة ).
خسر مهاتير الانتخابات الاخيرة ، لتكون هذه الخسارة درسا كبيرا لكل السياسيين الذين يتوقعون ثبات صورتهم وتقديرهم لدى الجمهور السياسي ،فرغم المنجز الكبير لمهاتير وعودته القوية بعد اعتزاله السياسة خمسة عشر عاما وفي سن متقدمة جدا ، لكنه لم يحسب حسابا لنهاية حياته السياسة بالطريقة التي تجعل صورته باقية بلا خدوش ،لا ادري ان كان مهاتير محمد يؤمن ايضا بنظرية (التكليف الشرعي) التي تجعله راغبا بالسلطة حتى وهو يقترب من عمر المائة عام ،لكن المظنون به ان ثقافته الاسلامية ربما جعلته يواصل مهمته الرسولية الانقاذية ، ويتوقع ان الجمهور يبادله الافكار والمشاعر ،غير ان الشباب الماليزي من الذكور والاناث كان يتحدث هذه المرة لغة سياسية ثانية غير لغة الهوية الملاوية او الاكثرية المسلمة والاقليات البوذية والهندوسية ،انه جيل يتحدث عن الهوية الماليزية الحديثة ،هوية الثقافة الجديدة والبصيرة السياسية التي تتكلم عن مستقبل البلاد ،اقتصاديا وبيئيا وامنيا بعدما اكل الفساد من جرف الاحزاب التقليدية وساستها ، ولم تعد صورة الزعيم مهاتير مبهرة وذات رمزية خلاصية فحسب .
سقط مهاتير في موجة سياسية جديدة تنبيء عن اشكال من التفكير والوعي السياسي تذكر بسقوط تشرشل في الانتخابات التي جرت بعد الانتصار الكبير على النازية عام 1945 . وربما لاسباب متقاربة تذكر خسارة مهاتير بخسارة الراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني للدور الثاني من انتخابات الرئاسة امام احمدي نجاد عام 2005 .رغم فارق الرصيد السياسي والاجتماعي بين الشخصيتين .
في الامثلة الثلاث المشار اليها ،ثمة قاسم مشترك ينبغي البناء عليه جيدا ،فعظمة الشخصية وانجازها الكبير وحضورها الواسع ليست رصيدا ثابتا عند الجمهور ،الثبات يعني غياب الادراك للمتغيرات الاجتماعية بما فيها من قيم وانماط تفكير وعلاقات ،ويعني ايضا اهمالا للمتغيرات الاقتصادية والسياسية ،فترهل الانظمة وغياب الاصلاح والتجديد وانتهاء المشروع الحلم يجعل الاجيال الجديدة لاتفكر بالمنجز التاريخي بقدر تفكيرها باولويات ومصالح واهتمامات متجددة وربما متغيرة ،اخطر ماتواجهه الاحزاب والحركات والانظمة هو ثباتها على اهداف واولويات تصبح بمرور الزمن عبأ على الجمهور الطامح الى التغيير .
جزء مما يجري في ايران (الجمهورية الاسلامية )هو الانفصال بين القوى الحاكمة ذات الايديولوجية المتصلبة وبين جمهور ينادي بالتغيير ،حينما تكتفي الزعامات والكادرات السياسية والمنظمات برصيدها التاريخي وتغفل عن قراءة الديناميكيات الاجتماعية والحراكات السياسية فانها تفشل في تقدير المتغيرات وتتراجع قدراتها على الموائمة والتكيف مع متطلبات واقع جديد لم تستعد له ولم تفهمه اساسا ،فتستمر في خطابها الصلد ولغتها الجامدة واهتماماتها الساكنة فيما يمضي الجمهور في حراكاته ويطور مطالباته بناء على احتياجاته وطموحاته ومقارناته مع الدول والانظمة الاخرى ،التخلف عن التحديق بالاغوار العميقة للامور يكشف عن تصلب الاعتقادات السياسية وجمود التفكير السياسي وهو مايؤدي الى خسارات سياسية وسقوط زعامات تاريخية وانقلاب الامور في لحظة عجز عن المبادرة .ان الغفلة عن عنصر الزمن وحفرياته العميقة هو المسار الاكثر خطورة على جميع الوجودات السياسية ولاسيما الجماعات والزعامات الاسلامية بما يجعلها تندهش من مداهمات غير محسوبة تتصورها ردة اجتماعية عن المباديء والهوية والشعارات الاساسية كما تسميه ،انها تتحدث عن اعداء ومتربصين يضللون الجمهور لكن ذلك جزء من الحقيقة وليس كلها فالمتربص الاول هو الزمن واستحقاقاته والمستقبل وتطوراته Evolving future .))
-من جانبي ربما وجدت في مداخل المقال المهم للمفكر ابرهيم العبادي ومخارجه كما جاء في اعلاه انه لم يغفل حركة التاريخ التي يدونها الخاصه ليفكك رمزيتها كبار المفكرين الاكثر خصوصيةً لاسيما في الكشف عن الرابط السوسيو -تاريخي بين صعود الكاريزما السياسية وهبوطها( كبنيان فوقي) والتي تعاكسها حتميات تاريخية مادية تجسدها دورات حياة تطور الشعوب ورؤيتها. اذ تتبدل عبر ازمنة الشعوب نفسها القاعدة الاقتصادية للحتمية التاريخيةً التي يمثلها (البنيان التحتي ) لتتطور في صميم بنيانها قوى الإنتاج وعلاقات الانتاج ليتحقق التغيير .
4- في ضوء ما تقدم ،
لامحالة من ان تؤدي قوى التغيير عبر الزمن الاجتماعي والاقتصادي الى ولادة عامل تسارع مهم يختزل المسافات الاجتماعية نحو تعجيل مساره في الصراع نحو بلوغ تعاقب المراحل السياسية (والتي تقودها قاطرة التقدم الاجتماعي والانساني ). انه حراك الشعوب الحية وتطور مناهج حياتها على الدوام . فلابد من ان تطوي تلك المعجلات الاجتماعية المتجددة (في الفكر والرؤى) ابتداءً اقوى الكاريزمات التي هيمنت على قاطرة القوة بما فيها الديمقراطيات صانعة القادة .وهي مقدمات لنتائج اجتماعية تبقى الاقوى تاثيراً في مقدمة التغيير . فذوبان الكاريزماتية وتراجعها زمنياً هو مسار ودلالة تؤشر ثمةُ جمود عقائدي امسى خالي تماماً من (ديناميكيات) التغيير ليستقر في حاضنة تمارس النسيان والاغتراب في فقدان الحياة والتوغل في (سكون )الماضي. فمثلما تصبح ادلجة المجتمع المنغلق حاضنة متآكلة تطوي قواها ومناصريها ازاء عزلتها وجمودها العقائدي عن مسارات الزمن المتغير ، تطوي تلك الحواضن بالمقدمة كاريزماتها القوية (كمقدمات )لتضعها في منافي الايديولوجيات الماضية (وهي نتائج ونهايات )مقدماتها . اذ يؤشر التراكم التاريخي في التجارب السياسية العالمية (ولاسيما في اعتى الايديولوجيات رسوخا) انه لابد من مرحلة تهرم فيها تلك التجارب والممارسات وتعجز لفقدانها بوصلة تحديث مناهجها الانسانية والثقافية والاجتماعية ، ولكن يبقى فقدانها في مسار التغيير evolution كشرط ضرورة سابق لاندلاع الثورات revolutions نفسها في منعطفات التغيير كشرط ضرورة وكفاية.
واخيرا ،انها الحواضن الايديولوجية التي يتوقف زمن التغيير فيها لتطوي ابتداءً في حواضنها كاريزماتها السياسية مجسدة سوابق واشارات على قوة التغيير بولادة مناخات روح العصر وواحاتها المتجددة على مسارات التطور الاجتماعي والاقتصادي .فان ما جرى
في العراق من حراك شعبي قبل اعوام مهما كانت الجهات المحركة والداعمة له التي تكثر علامات الاستفهام على بعضها ، الا انه كان مسارا تغييرا لانفصال الحواضن الايديولوجية المسيرة لكليات النظام عن مشكلات اجتماعية متاصلة يبقى ابرزها صراع الطبقات المحرومة في قاعدة الانتاج (كقوة ديناميكية صانعة التاريخ مثلما هي صانعة الحاضر والمستقبل ).و هي بديل تاريخي في الضد النوعي لصراع الطوائف والاثنيات المؤدلجة ( سكونيا ) على ريوع فاسدة في اعلى البنية الفوقية السياسية .
5- وجد المفكر السياسي حسين العادلي ، في رؤية العبادي ان ثمة اغتراب
(alienation )
في تحليل اكتمال الشروط التاريخية للتحري
عن دورة الكريزما والحياة السياسية في النموذج السياسي لبلادنا .. اذا تؤكد رؤية العادلي قائلاً : “وهو ما لا ينطبق على الواقع في بلادنا، فالمتصدي لدينا لا يمتلك اشتراطات الزعامة التاريخية مقارنة بالزعامات الثلاث التي تناولها المفكر العبادي خلال المسارات التاريخية، إذ لم تنضج لدينا صيرورات موضوعية لنشوء الزعامة التاريخية، والسبب الأساس هو انعدم الحياة السياسية التي لم تنشأ وتتطور بانسيابية ديناميكية لتنتج المدارس السياسية وزعاماتها
.
كذلك، لا جمهور لدينا مؤهل للفرز والاختيار والمراكمة السياسية التاريخية التي لابد وأن تعتمدها اي زعامة تاريخية، بسبب فشل مشروع الدولة بإنتاج أمة وطنية قادرة على ممارسة الوعي والاختيار”
6- واخيرا ، لم يفارق المفكر العبادي الجدلية التي طرحت في الفقرة 4 انفاً والجدلية التي طرحها المفكر العادلي بشان اكتمال الشروط التاريخية لصعود الكاريزما وهبوطها كما جاء في الفقرة 5 اعلاه ،حيث ذهب المفكر العبادي معلقاً بالقول:
((تذوي الكاريزما تدريجيا عبر الزمن ،والايديولوجيات الصلدة وتضعف عن مواجهة المتغيرات والمتطلبات عبر الزمن ،وان ديالكتيك التغيير يتحرك صعودا وهبوطا ارتباطا بالاداء السياسي والاقتصادي وبالقيم الاجتماعية والثقافية الناتجة بدورها من علاقات الانتاج والبنية التحتية المادية ،لذا لن تصمد البنى الفوقية في مواجهة رياح التغيير التي تعصف بها حاجات ومتطلبات الناس ،فالادارة الناجحة تاخذ كل ذلك للحفاظ على ديناميكيات التغيير سلمية وفعالة وايجابية وتسير ضمن رؤية تقرأ استحالة الثبات والبقاء ضمن خطوط وشعارات الايديولوجيات.فالتجدد ضرورة وليس خيارا والاستجابة المرنة خليقة بان تصنع تغييرا مسيطرا عليه ،بعكسه يسود العنف وننتقل الى الاحتجاج والتمرد والثورة )).
انتهى.