بقلم : فالح حسون الدراجي …
الثنائية التنافسية في الإبداع ليست من ابتكار اللاعبين الكبيرين ليو ميسي وكريستيانو رونالدو ولا من صنيعة زمنهما، إنما هي قديمة جداً، كما انها لم تتحدد في الكرة فحسب، بل هي ظاهرة عامة.. وثمة عشرات الثنائيات -قديماً وحديثاً- في الشعر والموسيقى والغناء، والرياضة، تؤكد ان ثنائية ميسي ورونالدو ليست يتيمة قط.. فمثلاً ثنائية أبي تمام والبحتري، وثنائية المنافسة بين المتنبي وأبي فراس الحمداني، التي بفضلها أطلق أبو الطيب رائعته؛ ” يا أعدل الناس إلا في معاملتي”، وهناك ثنائية اسحاق الموصلي وزرياب، التي وصل فيها الامر الى ان قام الموصلي بتهديد زرياب بالقتل إن لم يغادر العراق، فرحل للأندلس تاركاً بغداد لاسحاق، لكن بالمقابل فقد أنجزت هذه المنافسة التاريخية اعمالاً غنائية وموسيقية عظيمة صنعها هذان المتنافسان في الأندلس، وبغداد ..
وفي الشعر المعاصر كان التنافس بين أمير الشعراء احمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وبين الشاعرين معروف الرصافي وجميل الزهاوي، أو بين نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، أو بين محمود درويش وسميح القاسم، وفي الغناء الحديث أيضاً، فكلنا يعرف المنافسة النارية بين عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، وهي المنافسة التي جعلت عبد الحليم حافظ يقاتل بكل الاسلحة من اجل تقديم المزيد من الاعمال الباهرة، حتى يقال انه دخل الاستوديو مرة وهو مريض ليسجل أغنية (موعود)، ودرجة حرارته كانت اكثر من اربعين!
ولولا هاجس هذه المنافسة لما بقينا نردد اغنيات عبد الحليم حتى هذه اللحظة، ولا طربنا واستمتعنا بروائع فريد أيضاً، وما بين هذا وذاك، يبرز أمامنا التنافس في الشعر الشعبي العراقي، ونتاج المنافسة الشريفة بين الشاعرين الكبيرين كاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف، وما تركاه لنا من بيدر شعري مكتنز بالحب والابداع والجمال، وأقسم، لو نثرنا قصائدهما بصورها الشعرية ومفرداتها الفنية العالية، على صحراء الربع الخالي، لأزهرت الصحراء ورداً وشجراً ورياحين..
وفي التلحين وضع رياض السنباطي ريشته نداً لريشة محمد القصبچي، وكان الحاصل كماً هائلاً من احلى ما غنت ام كلثوم في مسيرتها الغنائية..من بينها الاطلال ولسه فاكر واكثر من اربعين أغنية..
وفي كرة القدم العربية، كان للثنائيات التنافسية في الأندية، دور عظيم في تقدم الكرة العربية، ومثال ذلك ثنائية فريقي الأهلي والزمالك التي جعلت كأس الدوري المصري ينتقل بين سنة واخرى من خزائن الأهلي الى خزائن الزمالك، وبالعكس ايضاً، حتى بات هذا التنافس الشهير حافزاً لهما لنيل بطولات أندية افريقيا وأندية العالم أيضاً، ولعل أغنية الصبوحة؛ ( إنت أهلاوي ولا زملكاوي) التي رددها عشرات الملايين من عشاق الكرة خير دليل..
وكذلك الحال في الاردن، فحين يلعب الوحدات (الذي يمثل الاردنيين من اصل فلسطيني) ضد نادي الفيصلي (الأردني)، تكون المباراة قمة كروية في الملعب، ومعارك ساخنة في البيوت والمقاهي والجامعات بل وحتى في المدارس الابتدائية بعمان والزرقاء والمدن الاردنية، ونتيجة لهذا التنافس فقد بقي كأس الدوري الاردني يتنقل بين هذين الفريقين ولكن لما تتاخر المنافسة بينهما، يضعف الدوري، ويتراجع حتى مستوى المنتخب الوطني أيضاً.. وفي السودان ثمة الهلال والمريخ، متنافسان أبديان.. بينما تعد ثنائية فريقي النصر والهلال سبباً مهماً من أسباب تطور الكرة السعودية.. وفي العراق حيث التنافس كان على أشده بين فريقي الشرطة والقوة الجوية، وحين دخل زوراء فلاح حسن وعلي كاظم، على الخط، بات التنافس ثلاثياً، بين الجوية والشرطة والزوراء، وكانت الغلبة للنوارس البيض في أغلب الأحيان خصوصاً حين دخل النجم الهداف كريم صدام حلبة التنافس.. والأمثلة كثيرة على ثنائيات التنافس العربي، بدءاً من الكويت والامارات وسوريا حتى المغرب وتونس وليبا والجزائر، وغيرها.
إذن، للثنائية التنافسية دور كبير في تسخين المسابقات وتفعيلها، وفي تقدم المستويات، وتحقيق المنجزات وتعظيمها، وكل ذلك يصب في صالح اللعبة، ومتعة الجمهور ..
والعكس صحيح ايضاً، وهنا يمكن النظر بامعان في ثنائية الأسطورة ليو ميسي، والنجم كريستيانو رونالدو، وتدقيق مراحل تألقهما، مقابل تراجع هذا التألق والتوهج احياناً !
إذ سنجد حتماً ان تألقهما ببطولة الدوري أو الأوربي، أو في منتخبيهما، يأتي في ذروة تنافسهما الشخصي، بمعنى أن حرارة التألق ترتفع درجتها حينما يتنافسان بضراوة، وهنا سيضطر رونالدو للتدريب خمساً وعشرين ساعة في اليوم، وقد يضطر ميسي الى أن يخلد الى نومه مبكراً، وربما سينام قبل أي كاتلوني في برشلونة.. ويقيناً لن تكون ثمرة هذا التدريب، وهذا النوم المبكر، والمحافظة على اللياقة، لغير لعبة كرة القدم وجمهورها المفتون بهذين النجمين الكبيرين.
واليوم، سنلاحظ بعد أن توقف التنافس بين رونالدو وميسي، تراجع مستوى رونالدو الى الحد الذي قام ناديه (مانجستر يونايتد) بفسخ عقده، كما ان الأندية الأخرى أضحت تتهرب منه، وكانه شخص منبوذ لا يريده أحد! آخر الأنباء تفيد أن رونالدو مقبل على التعاقد مع نادٍ سعودي !
وهنا يجب ان نشير الى أن التنافس لا يقتصر على ميدان الكرة والشعر فحسب، فهناك تنافس بين الدول ايضاً، وقد أوصل هذا التنافس السوفيات الى (أرض) القمر، وجعل الامريكيين ينجزون ما كان مستحيلاً انجازه، وبالمقابل، فقد انهار الاتحاد السوفياتي العظيم حين قطع الرئيس (غورباتشوف) حبل التنافس مع امريكا !
والشيء نفسه حصل بين دول متنافسة أخرى، ولعلني أذكر هنا انتصار انكلترا على الارجنتين في معركة فوكلاند، ومقتل وأسر أكثر من ألفي جندي ارجنتيني، وقد أصبح ذلك موضوعاً في المقالات والأفلام والأغاني، وعلى أثره تصاعدت المشاعر الوطنية، وانطلقت في الارجنتين مجموعة من الاحتجاجات الواسعة ضد الحكومة أدت لإسقاطها.
لكن لمارادونا رأي آخر، إذ قام بعد اربع سنوات على هزيمة فوكلاند، بسحق منتخب انكلترا، والفوز بكأس العالم !
وفي العراق ثمة تنافس بين مدينتي راوه، وعنه الانباريتين، فكان سبباً في أن يرتقي أبناء المدينتين الى درجات عالية من التقدم المهني والثقافي والاجتماعي.
أما في جنوب العراق، فقد كانت ناحية كميت وناحية علي (الشرجي) أو الشرقي تتنافسان في كل شيء، وحين كان فريقا مدرستي كميت وعلي الشرجي يتسابقان في مباراة بكرة الطائرة – وهي اللعبة الوحيدة آنذاك- كانت كأنها مباراة بين الارجنتين والبرازيل، أو بين الريال والبرشا.. علماً ان فريق كميت كان مستعداً لأن يخسر مع أي فريق في الكرة الأرضية إلا مع فريق علي الشرجي!
وبالمناسبة فقد كنا نعتقد أن حدود العالم تبدأ من حيث تبدأ حدود مدينتنا كميت، وتنتهي عندها !
واذكر أني كنت طالباً في الصف الرابع بمدرسة كميت الابتدائية، وقد نقل الينا معلم من بغداد اسمه (رسمي)، وكان هذا المعلم متضايقاً وضجراً على الدوام.. وفي يوم ما، وضع خارطة كبيرة على السبورة، وراح يؤشر بالمسطرة، قائلاً بصوت مسموع: هذه امريكا، وهذه روسيا، هذه المانيا، وهذه فرنسا، وبريطانيا، فقاطعه أحد الطلاب قائلاً: استاذ چا وين كميت
فأجابه المعلم متسائلاً بغضب: شنو ؟!
فقال له الطالب: استاذ انت ذكرت على الخارطة امريكا وروسيا والمانيا، وما ذكرت كميت..؟!
فصرخ به المعلم : ولك تسكت لو أشگ الخارطة وأنعل ابو الساعة السوده الأجيت بيها الكم، أگله امريكا وروسيا، يگلي چا كميت وينها ؟!