بقلم: قاسم الكفائي ..
المقدمة
قد يتهمُني القارىءُ الكريم في هذا المقال أنني أغرِّدُ خارجَ السِرب، أو أتصرف على وقع المثل القائل (عرب وين وطنبوره وين). كون الحدث بحسب الظاهر لا ينسجم ومضمون بعض ما سنطرحُه، لكن فلسفة الحياة لا تقتصر على محدودية الوعي والإبداع في التفكير لأن فضاء المعرفة أوسع من الحدث والنور أفضل من الظلام. تابعوني بتصبركم وتريثكم حتى نصل معا الى (بيت القصيد) الذي لا يتعدى غيرَ جُملٍ معدودات. إنتهت.
الخسارةُ التي مُنيت بها دولتا سورية وتركيا جرّاء الزلزال الذي ضرب مساحاتٍ واسعةً من مدنهما كبيرة وقد أدمت قلوبَنا ونالت من سعادتنا وراحةِ بالنا لأن الحزن عمَّ على مشاعر وخواطر المخلصين لعروبتهم ودينهم وإنسانيتِهم. هذه الخسارة لن يعوضَها إلا الله سبحانه، له التسليمُ المُطلق ولا اعتراضَ على أمرِه. فالصورة التي رسمها الزلزالُ كانت مُرعبة، مصبوغةً بألوان الذعر، ودفنِ الأحياء، وفقدان الأحبة بمختلف الأعمار، كبارِ السن من الرجال، والنساء كان بعضهنَّ حوامل ولدن نتيجة الضغط الهائل تحت الأنقاض الذي وقعَ على أجسادِهن لحظة الأنهيار، وشاهدنا الأطفال يخرج بعضُهم مخضَّبَا بدمه، محطمةً عظامه. خلال دقائقَ معدوداتٍ لم نجد لتلك الأبنية الشاهقة التي عرفها ساكنوها وعاشوا فيها رسما هم اعتادوا على رؤيته كلَّ يوم، إذ تحولت الى أكوامِ أنقاضٍ وتراب. أمام هذا المشهد المُروِّع وقفَت فرقُ الإنقاذ التركية والسورية أو الفرق القادمة من دول أخرى كي تشارك بعملها الإنساني عاجزةً عن إتمام مَهامِّها دونَ خسائر وإن فعلت ما بوسعها ويزيد. فالناس على اختلاف مشاربهم في هذين البلدين المتضررَين عاشوا هولَ الصدمة وهم حيارى ما بين فقد الأحبة والأضرار التي لحقت بالممتلكات، وفي هذا الجو المرعب كان جهد الدولتين في إنقاذ الأرواح عملا جميلا لا غبار عليه في التقييم الوطني وأداء المسؤولية. ما حصل بعد دقائق من الإنهيار كظاهرة خطيرة وبشعة إنتشرت في أسواق بعض المدن التركية قام بها بعضُ المواطنين من ضِعاف العقول والنفوس بسرقة البضائع المختلفة من المتاجر غير آبهين بالكاميرات المُنتشرة في كل مكان، ولا بالمواطنين الذين صوروهم بواسطة كاميرات هواتفهم أثناء قيامهم بعملية السلب والنهب -الفرهود-. هذا الفعل الوقح ينم عن تفسير خطير تشهده كل المجتمعات عندما تتعرض لأي حدث يولد صدمة بين الناس وفيها شراذم لا تهمها الأمانة لو خانتها، ولا تهمها مصالحَ الآخرين، ومصالحَ الدولة وسمعتها كالذي حصل في بعض مدن الزلزال بتركيا، مستغلين فرصةً ذهبيةً كانت فيها جميعُ المؤسسات الأمنية والرقابية مشغولةً وبعمق جرّاء هول الحدث وكيفية إنقاذ الأرواح التي غمرتها الأنقاض خصوصا في مدينتي كهرمان مرعش وغازي عنتاب وما حولهما. لا يفوتني ما أريد توضيحه هنا أن المؤسسة الأمنية التركية قوية جدا ومتكاملة بالعدة والعدد والكفاءة، لكن هول الصدمة (الزلزال) أبعدتها قليلا عن مواصلة أداء مسؤوليتها في الشارع كما هو معتاد، وقد فلت من يدها السلاح الذي تحمله، وغابت عن ذهنها كلُّ فرضية– الطابور المنفلت- فخسر أصحابُ المتاجر خلال ساعات جرّاء هذا -الفرهود- المليارات بعملة تركيا (الليره) ولا أدري لو وقعت حالة سطو على بعض المصارف. الى هنا وصلنا الى (بيت القصيد) الذي وعَدْنا به القارىءَ الكريم في المقدمة كي تتبين له حقيقة ما جرى على العراق في الفترة من عام 2003 والى اليوم. قلنا سلفا أن (دقائق أو ساعات) الغفلة التي أصابت المؤسسة الأمنية في تركيا لسبب وآخر كانت فيها الخسائر كبيرة لما فعله اللصوص باقتصاد البلاد، فكيف إذن نقيِّم ما حلَّ بالعراق من فساد وخروقات حين فقدت الدولة أهم مؤسساتها الأمنية لعشرين سنة ومازالت غائبة عن واقعها الذي يجب أن تشغله بل صار منتسبوها هم أئمة الفساد واللصوصية وحولوها الى مؤسسة لصناعة الحيلة والتزوير ومخططات السرقة، وبغياب الكوادر المخلصة والكفوءة عاشها العراق تحت رحمة اللصوص المتمثلة بقادة الكتل السياسية وتابعيهم، كلٌّ يعيشُ على هواه، متى، وكيف، وأين يسرق. فالبلاد التي لا تحكمها المؤسسات الأمنية الرصينة بمهنيتها وقوتها لن تصمد أمام فوضى الدوائر الأخرى وما ينتج عنها من عبثية يستغلها الفاسدون والطابور المُنفلت، وقد تتسبب بانهيار الدولة كما شهدنا في بعض جوانب الدولة العراقية. لم أكن كاتبا مستجِدا في هذا المضمار أو عارفا فيه، فتجربتي في حياتي بمواجهة أخطر الأحداث لأكثر من أربعة عقود ونصف العقد هي أكبر مما فضحت وأعلنت (أرشيف هذا الموقع الموقر). لقد كتبت الكثير من المقالات قبل عقدين من الزمن بهذا الخصوص، ثم كتبت بعدها مقالاتٍ مازالت في أرشيف بعض المواقع ذكرتُ فيها المخاطر التي ستلحق بالدولة العراقية جرّاء غياب هذه المؤسسة ومهنيتها لتحل محلها الفوضى ويحل الفساد. ففي تموز من عام 2011 كتبت مقالا بعنوان ” جهاز المخابرات العراقي ! الحلقة المفقودة” ، كذلك مقالا آخر بعنوان ” المخابرات بين واقع الثقافة والإنحراف ” وما قبلهما مقالا كان بعنوان “دور جهاز المخابرات في إعادة تأسيس الدولة “، وهناك العديد منها، مع أن مضمونها واحد يشير الى إنهيار الدولة أمنيا وانهيارها اقتصاديا وسياسيا نتيجة غياب المؤسسة الأمنية الرصينة. في كتاباتي هذه وغيرها مازلت أغرِّد خارج سرب المحللين السياسيين والمتخصصين الذين يتحدثون عن الواقع العراقي المريض بشيء من الفلسفة والتخبط في حلولهم والعلاج الذي يقدمونه بعيدا عن الواقع الذي فقد مؤسساتهِ الأمنية مما زاد على المصيبة مصائبَ وانحداراتٍ نحو الهاوية. في الواقع العراقي المُعاش يشهد المواطن تقلباتٍ ومنافساتٍ ما بين (الدينار والدولار) وحين يجتمع المحللون في برنامج على التلفاز يقدمون مقترحاتِهم الفلسفية لحل النزاع بين العُملتين، لكنني أبقى معلولا أمام هؤلاء وتفسيراتهم ومعي الأمنيات بأن أجدَ من يسمع مشورتي في بناء مؤسستنا الأمنية المنضبطة التي ترتكز على قواعد المهنية والكفاءة العالية لتكون ضامنا لسلامة عملتنا وصونها على الدوام ( طرح التفاصيل ليست بالسهلة الآن ) على أن تسعى حكومتنا في بناء المؤسسة التي تكون قد وفَّت بعملها في ضرب صُنّاع الفساد وأسبابه وفق ضوابط العمل المهني المُتقَن. أخرجُ من بيت القصيد لأعود الى همجية الزلزال الكبير الذي روّع أهلنا في تركيا وسورية كانت النتيجة خسارة بالأرواح تعدَّت الأربعين ألفا والجرحى قد تصل الى المئة ألف إنسان، ناهيك عن ملايين المشرَدين. لكن من بواطن الشر يظهر الخيرُ أحيانا وتظهر منها الدروس إذ جعلت الإنسانيةَ أمامَ إمتحان أكبر، وقد رأينا كيف تضامنت وتظافرت الجهودُ لكثير من الدول العربية والإسلامية والصديقة. هذه سورية التي تحصنت بمواقف أشقائها الرائعة وما قدموهُ من مساعدات إنسانية وإغاثية من العراق الى لبنان، الجزائر، مصر، ودول (الخليج العربي)، كذلك من تونس، الأردن، وموريتانيا الإسلامية، وغيرها الكثير من منظمات ودول. أما مواقف أصدقاء سورية والشعب العربي فمشرِّفة أمثال روسيا التي أبدعت في هذا الجانب، وكذلك الصين (تطمح شعوب المنطقة وعلى الخصوص في العراق أن يكون لروسيا الإتحادية والصين الشعبية حضورا قويا من خلال علاقاتٍ إستراتيجية متينة في شتى المجالات، وهذا المطلب هو جزء من ثقافة الفرد العربي والمسلم إتجاه هذين الدولتين الودودتين) ، وشبه جزيرة القرم الروسية، ثم مساعدات دولة بيلاروسيا الصديقة،إيطاليا ،إيران ، الباكستان، الهند، فنزويلا، كوبا، بوليفيا، وغيرها الكثير ممن تعاطف ولو بكلمة (لا نبحث هنا مواقف الدول المتلكئة أو دول الغرب التي لا تعرف معنى الإنسانية سوى المصالح). أما الموقف الرائع الذي وقفته دولة اليونان وأرمينيا في مساعدة تركيا جعلنا نعيد حساباتنا بأن الإنسانية حيّة ولم تمت وأن الضمائرَ النظيفة هي التي تتحكم بالدوافع وتقييم أحوال الجار والصديق عند الشدائد، بينما العلاقة المتوترة ما بين هذين الدولتين وجارتهما تركيا تستلزم منا اليأس والإستحالة بتقديم أدنى عمل للمساعدة. لقد حمدتُ الله أني كنتُ على خطأ بحساباتي وتقييمي لسياسات بعض الدول حين وصَل وفدُ اليونان برئاسة السيد وزير خارجيتها الى تركيا معزيا ومستعدا لتقديم المساعدات وقد تحقق ذلك. أيضا ما قامت به دولة أرمينيا الصديقة بفتح المعبر الحدودي مع تركيا بعد إغلاقه لخمسة وثلاثين عاما تقريبا ومن خلاله عبرت المساعدات الى الجانب التركي، فهو عملٌ رائعٌ ومشرِّف انتصرَ به عنصرُ الإنسانية الثابت على موقف السياسة المتقلبة. في ذات الوقت تأكدَ لي فيما بعد أن لتركيا مواقفَ رائعة معهما فيما سبق وما بخلت فيها أو تنصلت، فمثلا وقوفها الإنساني مع دولة أرمينيا حين ضربها الزلزال في 7 ديسمبر من عام 1988. هذه المواقف تبعث على السرور وتفيدنا بالنتيجة أن الضمائرَ ما زالت حية. فالزلزالُ المُرعب الذي قهر العالم ظهرت من تحت حطامه بوادرُ أمل في إعادة تقييم العلاقات العربية – العربية، ومع الدول الصديقة، كذلك علاقة سوريا بجارتها المسلمة تركيا.ُ لقد تكشفت بواقعِ هذا الزلزال إنسانية الإدارة الأمريكية التي وقودها الناس والحجارة على حساب جراحات ومصالح الشعوب حين وقفت متفرجة أمام المدن المُهدَّمة وهي تتحدث بحصار قيصر والعقوبات الأحادية الجانب على سورية في الوقت الذي فيه عشراتُ آلآفٍ من البشر تحت الحطام والجرحى والمُشردين بينما أدوات هذه الإدارة من الإرهابيين (القاعدة) يمنعون مساعدات الدولة من الوصول الى الناس المتضررين من المدنيين في الشمال السوري أو يصادروها، في ذات الوقت أبواقُهم المأجورة تعلن كيف أن النظام السوري يسرق المساعدات الدولية لبيعها في الأسواق، يا للعار. تبَّا لإنسانية المستكبر وبشاعتها، فبها تزولُ النعمةُ والقوّة.
قاسم محمد الكفائي/ كندا twitter…@QasimAlkefaee