بقلم: قاسم محمد الكفائي ..
المقدمة ..
الخبرُ الأهم كما تراه العامَّة ويراهُ المحللون والباحثون في هذه المرحلة التي تمر بها منطقتُنا ما ورد عَبر الإعلام منذ أكثر من إسبوعين يقضي بعودة العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية كان الرئيس “شي جين بينغ” قد اعتمدها كمهمة إنسانية من أجل سلامة المنطقة وبسط الأمن الذي ينعكس على راحة الإنسان فيها ويصون خيراتِه، وتقدمَه وفي النهاية تحقيق مصالح الدول في الأمن والسلم، وفي التجارة التي تنتفع بها البلدانُ والشعوب.
فلولا تدخل جمهورية الصين الشعبية التي هي أقرب تاريخيا للأمة العربية والإسلامية لحسبتُ أنا المتابع العربي كغيري من المتابعين أن هذا الخبر أشبه بشيىء من الهلوسة السياسية، تؤدي نهايتُها الى الفشل بناء على معطيات عرفناها من خلال التشنجات التي هي لغة حكومتي الدولتين في الرياض وطهران منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران التي خَشيَها الجميع. بقيتُ أياما أنتظر بوجع شديد عسى أن تتحقق مساعي صديق العرب الودود “شي جين بينغ”، وما كان بودي إبداءَ رأيٍ سوى التريث بارتباك، حتى ظهر علينا خبرٌ رائعٌ مُكمِّلٌ لما سبق يفيد بأن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز قد بعث بدعوة الى نظيره الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض، ثم شفعه مؤَخَرا إتصال وزير الخارجية السعودي هاتفيا بوزير الخارجية الإيراني فتبادلا التهاني والتبريكات بمناسبة شهر رمضان المبارك واتفق الطرفان على لقاء ثنائي غرضه استئناف التفاهم لإعادة فتح سفارتيهما والقنصليات بين بلديهما. وفي خبرٍ لا يقل روعة عن غيره من الأخبار هو التواصل والتحاور السوري السعودي. هذه الأخبار كنا نتمناها ونحلم بسماعها نحن شعوب المنطقة من أجل أن نبني عليها خطواتٍ أخرى تؤدي بالنتيجة الى نجاح المهمة يكون فيها صديقنا الصيني قد أكد مصداقيتَه وتأثيرَه الودي على الطرفين، ما دفعني هذه المرة لكتابة هذا المقال بكل تفائل بعيدا عن التشنجات القديمة للقطبين المتخاصمَين التي كنّا نخشاها. قد يقول آخر أن هذا التقارب الذي تحركت من أجله “المملكة” وباختصار لدفع الضرر الإيراني عنها بالإتفاق مع أمريكا وإسرائيل اللذين يسعيان الى توجيه ضربة قاضية للمفاعل النووي الإيراني. أظن هذا التفسير غير وارد بناءً على ظروف المرحلة، والمعطيات، والأسباب، التي سنشير لها في مقالنا هذا. إنتهت.
الحديثُ عن التقارب السعودي الإيراني هو أنسب من كلمة “إتفاق” أو “معاهدة” لأن هاتين الدولتين لا يأمن أحدُهما الآخر لاعتبارات شكلية أحيانا وغير واقعية، تغلفها الضغائن المذهبية من جهة والسياسية من جهة أخرى، وقد تضاعف تأثيرُها في تأجيج الأزماتِ والتشكيك يوما بعد آخر، وعاما بعد عام. فعلى سبيل المثال نجد حكومة إيران تتبنى العنصر السياسي لمواجهة السعودية الخصم باعتبار أنها مرتبطة بدول الغرب وتنفذ أجندتها في داخل المنطقة، أما الجانب السعودي فيرى خصمَه يعمل على تصدير “الثورة والمذهب”، فهو يقرأ التاريخ ويرى فيه كيف أن الشيعة ينتهجون مبدأ ( المواجهة والتغيير) وقد حملوا على أكتافهِم أعوادَ مشانقهم إن فشلوا أو نجحوا في مهمة قيام ثورة ما كانوا فيها حفاةً دون سلطة أو تسلط. هذه القراءة بدأت منذ زمن معاوية حتى قيام ثورة الإمام الخميني- رضوان الله عليه – في إيران التي صارت هاجسا ثقيلا على كاهل حكومات دول المنطقة التي يقطنها “الشيعة”. بهذه القراءة الضعيفة والتفسير الموهوم يصعب على الطرفين الإنسجام والتآلف لو أضفنا تخوفا آخر مغروسا في عقول عرب الجزيرة تتبناه المدرسة الوهابية، أن الشيعة لا أمان لهم، يتمددون بسرعة مذهلة وهم “شر من وطىء الحصى (هذه العبارة يُلقِّنها الأساتذة الوهابيون لتلاميذهم في مدارسهم على مدى سنين القرن المنصرم إذا ما تجاوزنا القرنين ونصف تقريبا اللتين مرَّتا على تأسيس المذهب الوهابي )”. فالحكم على الشيعة يندرج في خانة عدم قبول الآخر بروحِ التمذهب المتشنجة بعيدا عن الواقعية كما أسلفنا وبرؤية ضيقة يتبناها كبار علماء المذهب الوهابي المتزمت الذي بسط جبروتَه بالمال والسلطة على بلاد الحرمين، وتمدَّدَ في أصقاع الأرض ( ما قبل عهد الأمير محمد بن سلمان كان لهؤلاء الكلمة الفصل في توجيه شؤون المملكة). أيضا هناك مَن يغذي هذه القناعات المغلوطة ويدعم السلوك المتطرف الذي استشرى بالمال فعمَّ بلدانا أخرى حتى وصل الى سورية والعراق ولبنان وأفغانستان والباكستان واليمن، وفي دول أخرى. حقا إنها معضلة خسرت بسببها الأمة الكثير من عناصر قوتهِا حتى وصل بها الحال أن تستجدي “العقل” من المجانين. فبواقع التغيير الممكن يبقى الإنسانُ له الدورُ الأساسي في عملية رفض ما هو قبيح بتوظيف وسيلة العقل ثم الإرادة اللذين من شأنهما تعطيل وتحجيم عناصر الشر قبل بلوغ الهدف، أو بأقل الخسائر. ومن مآثرنا نحن العرب أننا خضنا أقسى التجارب وخسرنا فيها ما نملك، لكننا لم نخسر إنسانيتَنا التي فيها يستحيل دوام ذلك القبح والتشرذم ورقابنا تجرها أيادي الأسياد الغرباء. إذن من هذا الواقع وفي عهد الأمير المجدِّد تأبى المملكة العربية السعودية الخضوع والتبعية ب(المُطلق) للإدارات الغربية وإن طال أمدُها لأكثر من قرن، فصار أمرا مُحالا بحكم المتغيرات والمعطيات المستجَدَّة على ساحتنا الإقليمية والدولية وبالذات المملكة العربية السعودية. هذا الأمر أكَّدهُ، ودفع اليه، ولخَّصهُ الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” وهو يتهكم بقوة على “ملك” السعودية ويطالبه بدفع الجزية بأرقام خيالية كضريبة على حمايته، وحماية نظام مملكته، ويصفه بالعاجز عن الوقوف على قدميه ساعاتٍ قليلة في مواجهة الأخطار الخارجية دون الحماية الأمريكية الصارمة له. ثم جاء بايدن –الرئيس الحالي – وكرَّر تلك الإهانة لنظام المملكة، ما يعني أن لا صداقة دائمة، ولا إستقرارٌ مستمِر في علاقة الإدارة الأمريكية بحلفائها الذين لا قيمة حقيقية لهم عندها، وكذلك ما تفعله حكوماتُ دولِ الغرب بحلفائها العرب والأفارقة. ما قرأته أنا المواطن العربي ورأيته بعد تصريحات ترامب وبايدن على سلوك الأمير العربي الشاب محمد بن سلمان وولي عهد المملكة أنه تحرَّك خجلا بدافع الشيمة أمام شعبه وجميعِ أهلِ الأرض، وطارَ شرارُ عينيه جرّاء هذه الصدمة التي دفعت به للتفكير وبجديّة لتوجيه بوصلة مملكته صوبَ الصين، ثم روسيا، ووسمَها بالتقرّب صوبَ إيران التي هي أهونُ عليه من هذه الصدمة التي فضحت بشكل رسمي وعلني مملكته ونظامه، وكأن عشرات الترليونات من الدولارات التي ابتُزت بها المملكة خلال القرن المنصرم إذا ما جمعناها بالأرقام راحت سدى، كذلك ما نفَّذتهُ من مخططاتٍ طُلبت منها في المنطقة وخارجها تحت مُسميات التعاون الأمني الإستراتيجي (طبخ شلغم). الأمير محمد بن سلمان كما نراه هو الحاكمُ الفعلي في البلاد وصلاحياتُه مُطلقة بلا منازع، لهذا فقد أخذ طريقَه نحو الصين التي هي صديقة العرب ويأمن صوبَها الجميع. هنا نتحدث عن مصالح شعوبِ منطقتنا دون أن تقتصر فقط على مصالح الدولتين المتقاربتين. اليمن وسورية ولبنان هما الواجهة في كل المناقشات التي ستُطرح على طاولة المفاوضات السعودية الإيرانية، ولكل دولة مشاكلها، إما في كيفية مكافحة الإرهاب والقضاء عليه، أو المعاناة بسبب الضائقة المالية، أو عملية تضميد الجراح بسبب الحرب والمنازعات. نأمل أن تبقى فلسطين وكذلك محورُ المقاومة حاضرتان في كل خطوة يخطوها المفاوِضان. أما العراق فسينال نتيجة هذا التقارب قسطا كبيرا من الأمن وسينعم بالخير الذي نأمل أن يصبح قريبا الى إتفاقيات مصيرية ما بين الدولتين المُسلمتين شريطة أن تفضي الإتفاقيات بعدم التدخل في شؤون كل دولة.
في هذه المرحلة التي تتضاعف فيها المخاطر وتكبر فيها التطلعات تظهر في الواجهة مسائلُ عديدة توخطيرة تحتم على “ولي العهد” أن يلتفت ليأخذ بها، أهمها، الأولى: إبعاد المؤسسة الدينية في المملكة عن أي تأثير لها في إتخاذ القرار. والثانية: أن تبقى قضية إغتيال المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز بكل تفاصيلها شاخصة تُستَخلَصُ منها العِبر. وبقليل من الوضوح فإن ” ولي العهد ” بمجرد أن حرف البوصلة باتجاه الصين فإنه يستحق التصفية الجسدية ولن يُغفَرَ له وإن عاد مستغفِرا نادما. هذه طبيعة تفكير وقواعد عمل دوائر المخابرات الغربية.
أما لو اطلعنا في عمق العلاقة التي تربط الشعوب العربية والإسلامية بالشعبين الصيني والروسي فسنجد لنا معهما قواسمَ مُشترَكة حدَدها التاريخ الحضاري والإنساني منذ أكثر من ألف عام ويزيد. فلا بدَّ إذن أن نحافظ عليها ونصونها كي لا نقع في حضيرة مَن لا يرحمنا لنبقى في دوامة إذلالِه وتسلطِه. نكتفي بهذا القدر لنبقى متوسمين بما تسعى إليه جمهورية الصين الشعبية من تهدأة وتحاور وتقارب، لكن الذي نراه في الأفق هو الوصول الى التفاهمات الإستراتيجية التي تهمنا جميعا وتجعل المملكة قوية ومحصَّنة بسور أشقائها الذين يستقبلون القبلة صوبها بعيدا عن صداقة الشياطين. هذا ما تتمناه الشعوبُ العربية والإسلامية والمخلصون من أصدقائِهم.
قاسم محمد الكفائي/ كندا