بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
ظلت أهوار جنوب العراق ملاذاً آمناً لكل الهاربين والفارين من بطش الطغاة والغزاة والوشاة، منذ زمن سرجو الأكدي وحتى يومنا هذا، وذلك لأنها تمتلك المصدات البيئية الصعبة، ويتعذر على الجيوش القديمة والحديثة التوغل في مسطحاتها العميقة، والسير في مسالكها المعقدة وسط غابات القصب والبردي. ولا زالت عصية على التنظيمات العسكرية، وهكذا باءت محاولات التجفيف والتخويف واضرام النيران والغارات الجوية بالفشل الذريع. الأمر الذي دفع الملوك والسلاطين والزعماء إلى تجنيد مضخاتهم الإعلامية لتشويه صورة سكانها، وربما تذكرون برنامج (أطراف الحديث) الذي بثته قناة الشرقية منذ بضعة أعوام، وكان من تقديم (مجيد السامرائي) في مقابلة مع (بهنام ابو الصوف). .
كان ذلك البرنامج امتدادا مقصوداً لسلسلة المقالات التي نشرتها جريدة (الثورة) عام 1991 تحت عنوان (لماذا حصل الذي حصل ؟). .
لذا سوف اختصر الطريق في هذه المقالة لكي أضع النقاط على الحروف. ومراجعة الكلام المنسوب إلى (محمد القاسم الثقفي) والذي زعموا فيه انه هو الذي جلب الجواميس من الهند، وتركها تتأقلم في اهوار جنوب العراق، وجلب معها مجموعة من الهنود لكي يشرفوا على رعايتها والعناية بها، وزعموا أيضا ان هؤلاء الهنود يمثلون نواة ظهور قبائل المعدان، وقالوا أيضا ان الاهوار قبل عودة محمد القاسم من غزواته في السند والهند كانت خالية تماماً من البشر والجاموس. .
وهذا يعني ان الجواميس التي كان يصارعها انكيدو في الاهوار كانت جواميس كارتونية وغير حقيقية، وان شعار الدولة العراقية (الثور المجنح) وهو من فصيلة الجواميس، ليس حقيقيا، وانما كان من وحي الخيال الآشوري. .
لو راجعنا مفردة (معدان) أو (المعدان) التي وردت في كتب التاريخ والأدب على لسان الشاعر (كثيّر عزّة) في زمن عبد الملك بن مروان، لوجدنا ان الرواية المنسوبة إلى محمد القاسم كانت في زمن سليمان بن عبد الملك. بمعنى ان روايتهم المزعومة كانت باطلة ومتأخرة ومزيفة، وأذكركم بالحوار الذي دار بين الشاعر (كثيّر عزّة) والخليفة الأموي عبد الملك:- (دخل الشاعر كثير عزّة على الخليفة، وكان قبيح المنظر، قصير القامة، رث الثياب، فلما رآه الخليفة، إزدراه، وقال له تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأجابه كثير: يا أمير المؤمنين، كل عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالى السناء). .
مات عبد الملك بن مروان عام 705 ميلادي، وجاء من بعده ابنه (الوليد بن عبدالملك)، ثم جاء من بعد الوليد شقيقه (سليمان بن عبد الملك) وهو الذي أمر محمد القاسم بالعودة إلى العراق عام 715، فأودعه السجن فور وصوله، حيث لقي حتفه في سجن مدينة واسط تحت وطأة القهر والتعذيب. .
وبالتالي فان مفردة (معدان) كانت شائعة قبل عودة محمد القاسم بسنوات. إضافة إلى ذلك انه عاد مقيداً بالسلاسل، وكان في طريقه مباشرة إلى السجن والتعذيب، ولم يكن لديه الوقت الكافي لجلب قطعان الجاموس، أو يوفر لها المرعى في الاهوار . .
لكننا نرجع فنقول: من أراد ان يكرهك سيكرهك، وسيجد آلاف الأعذار لتشويه صورتك. .
لذا فعندما يرى المشككون الجزء السيء من الأهوار فأنهم دائماً يرون ما يتماشى مع عقولهم المشفرة ضد عرب الأهوار لأسباب طائفية وسياسية وعدوانية. .