بقلم : فالح حسون الدراجي ..
عندما كان مارادونا فتىً طالباً في اعدادية (لانوس) في مقاطعة بوينس آيرس، كان يرفع صورة الثائر (تشي جيفارا) في التظاهرات الطلابية والشبابية المنددة بحكم الجنرال الدكتاتور خورخه رافائيل فيديلا، وانقلابه العسكري – المدعوم من المخابرات الأمريكية – في
العام 1976، ولم يتوقف عن التظاهر حتى سقوط النظام العسكري الفاشي.
وحين (كبر)، وأصبح نجماً وأسطورة في كرة القدم، رسم وشم “تشي جيفارا” على ذراعه اليمنى.. ووشم الزعيم فيدل كاسترو على ساقه اليسرى، ومثلما كان يتظاهر ضد الإمبريالية الأمريكية، والبريطانية، لا سيما بعد احتلال بريطانيا لجزر فوكلاند عام 1982، حين كان شاباً يافعاً، فقد واصل مارادونا (الطقوس) العدائية ذاتها تجاه هاتين الدولتين حين صار نجماً كبيراً، فانتقم من بريطانيا شر انتقام في كأس العالم عام 1986، في المكسيك، عندما سحقت الارجنتين منتخب (انگلترا /بريطانيا) بهدفين سجلهما مارادونا، كان أحدهما باهراً، راوغ فيه ستة من لاعبي انگلترا، والهدف الثاني كان ملعوباً فنياً، أحرزه مارادونا بيده .. وحين سأله الصحفيون بعد المباراة عن كيفية لعب الكرة بيده قال: لقد كانت (يد الله).. ويقصد (يد العدالة)، التي انتقمت للشعب الأرجنتيني من بريطانيا الغازية المتجبرة.
أما موقفه تجاه أمريكا، فقد عبر عنه مرات عديدة وفي مختلف مراحل حياته كان من بينها موقفه عام
2005 ، يوم أقيمت قمة الأميركيتين في ( مار ديل بلاتا ) في الأرجنتين. حيث قاد احتجاجاً معروفاً على حضور جورج بوش الى البلاد، مرتدياً قميصاً حمل عبارة : “توقف بوش” STOP BUSH “
ولا شك أن القارئ الكريم يعرف حجم العلاقة التي كانت تربط بين كاسترو ومارادونا، حتى أن كاسترو قال عنه مرة : مارادونا “تشي الرياضة”.. ويقصد (جيفار الرياضة)، وهو توصيف فريد لم يصف به كاسترو أحداً غيره، سواء أكان رياضياً أم سياسياً، أم فناناً، أم أديباً شيوعياً، أو غير شيوعي، عالمياً كان أو كوبياً.. وبالمقابل وصف مارادونا، صديقه كاسترو بعد وفاته، قائلاً : ” لقد رحل والدي الثاني، فيدل الذي فتح لي أبواب كوبا، في الوقت الذي أغلقت فيه عيادات الأرجنتين أبوابها بوجهي، لكن فيدل فتحها لي من القلب”.
لذلك أمضى مارادونا في كوبا خمس سنوات تقريباً يواصل علاجه وتأهيله، تحت عناية ومتابعة فيدل كاسترو شخصياً، الذي كان يتصل به يومياً، ويتحدث معه ساعات عدة، كي لا يضجر أو يشعر بالوحشة. ولم يكن فيدل الصديق الوحيد لماردونا، إنما كان أغلب قادة اليسار في قارة أمريكا اللاتينية أصدقاءه، مثل الرئيس الفنزويلى الراحل تشافيز، وخليفته الرئيس نيكولاس مادورو، والرئيس البوليفي السابق “إيفو موراليس” والرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور، وغيرهم من قادة وزعماء اليسار الذين يفخرون بصداقتهم لمارادونا.
ومن الجدير بالذكر، أن موقف مارادونا المعادي لامريكا ظهر مع عدد من رؤساء الولايات المتحدة وليس مع بوش فقط، فقد وصف الرئيس ترامب، عام 2018 بكلمة “Chirolita”
التي تستخدم لتوصيف شخص قليل الشأن.، ثم أكمل ذلك بتصريح آخر قائلاً: ” أمريكا تعتقد أنها شرطية العالم، ولأن لديها أكبر قنبلة، فهي تظن أنها تستطيع دهسنا، لكن ذلك لن يحدث، ولن يستطيع ترامب أن يشترينا”. كما كانت لمارادونا مواقف مؤيدة وداعمة للقضية الفلسطينية، فعلى هامش مونديال 2018 في روسيا، التقى بالرئيس عباس، وقال له: “أنا فلسطيني القلب”، وقد اشتهر هذا الفيديو كثيراً، حتى أن الصحافة الإسرائيلية تحدثت بغضب شديد عن هذا الموقف الصريح.. وللتذكير، فقد قال البابا فرنسيس الاول – المولود في الارجنتين عن مارادونا بعد وفاته: ” أحب ديغو مارادونا لأنه يحب الفقراء ولدي ذكرى معه مرتبطة بكأس العالم 1986، تلك البطولة التي فازت بها الأرجنتين بفضل مارادونا، لذلك صليت من أجله، وأرسلت للعائلة مسبحة مع كلمات تعزية شخصية رغم أنه رجل علماني لا يكترث ويهتم بالكنيسة” !
والآن، بعد أن اطلعنا على علاقة مارادونا بالقادة الشيوعيين واليساريين في العالم، وعرفنا عداءه البالغ للانظمة الامبريالية، وبعدم اكتراثه بالكنيسة، وانحيازه لقضايا الفقراء والكادحين، هل نستطيع القول إن الرجل شيوعي؟
نعم إنه شيوعي، لكن على الطريقة ( المارادونية) !
أما الشيوعية حسب الطريقة المارادونية، فهي الإيمان المطلق بحقوق الطبقة العاملة، ونصرة الحرية، والدفاع بقوة عن حقوق الشعوب المستلبة والمضطهدة، والنضال ضد الرأسمالية، والإيمان بالاشتراكية العلمية، لكن أصحابها في الوقت نفسه يتصرفون بمزاج خاص، وسلوك شخصي حر وغير مقيّد، يصل حد الفوضى أحياناً، ولا أقصد بذلك أنهم يسيئون الى عقائدهم او لأوطانهم، أو يعتدون على حريات الآخرين، إنما أغلب اساءاتهم تقع مع ذواتهم، كما حدث مع مارادونا ومشكلة ادمانه على تعاطي المخدرات !!
وهنا أذكر، أني سألت مرة لاعباً عراقياً دولياً كبيراً، ومثقفاً، كان محباً للحزب الشيوعي العراقي جداً، عن السبب الذي يمنعه من الانتساب للحزب؟
فقال: بصراحة، الإنتساب للحزب الشيوعي العراقي شرف، وأمنية لديّ، لكن احترامي له، واعتزازي به، يبعدني عن الانتساب له.. فأنت تعلم أن عضوية الحزب الشيوعي تتطلب التزاماً حزبياً، وانضباطاً سلوكياً وشخصياً عالياً، أفتقد لهما للأسف، فأنا صاحب مزاج، ولا قدرة لي على تحمل المسؤولية، فضلاً عن كوني شخصاً خطاءً، وكثير النزوات التي لاأستطيع السيطرة عليها. إن هذا اللاعب العاشق للحزب الشيوعي لايختلف عن مارادونا، بل هو ينتمي لـ (المارادونية) أيضاً.
لقد كنت قد ذكرت في أكثر من مقال، أن هناك شيوعيين أعضاء بالحزب، وهناك شيوعيين آخرين (من نوعية خاصة) لم ينتموا لأسباب عديدة ومختلفة، بمعنى انهم خارج التنظيم الحزبي، لكنهم في الحق (داخل) الحزب وجدانياً وطبقياً، وفعلياً أيضاً.. ومارادونا أحد هؤلاء. لقد تأكدت لي (شيوعية) مارادونا من خلال موقفه الباهر الذي لخصته الصورة المنشورة اسفل المقال.. حين كان مدعواً من قبل الرئيس” فيدل كاسترو ” لحضور الإحتفال بذكرى الثورة الكوبية، وعلى أنغام موسيقي ” الهافانا فيالا ” الكوبية، اقتحمت قاعة
“الستريل بلورن” طفلة عمرها ثماني سنوات، قاطعة الموسيقى التي كان يرقص عليها الضيوف رقصة”هافانا بانانا ” الكوبية الشهيرة، وقد كانت العيون تنظر باستغراب لدخول هذه الطفلة المتسخة ملابسها والمختفية ملامحها خلف الدخان ودهن السيارات .. لذلك قام الحرس الأمني بطردها من قاعة الحفل، فخرجت الى الشارع حزينة، دامعة .. ولم يخرج خلفها سوى مارادونا، الذي أثر فيه الموقف وأوجعه، فحملها بيديه وأعادها الى الحفلة، ثم راح يرقص معها رقصة “هافانا بانانا ” لأكثر من ساعة، تاركاً الضيوف، وكل الذين كانوا يريدون أن يصوروا معه .. بعدها، مسك مارادونا الطفلة من يدها، ودخل معها غرفة كاسترو، غاضباً، وصارخاً بوجه الرئيس، قائلاً : أية ثورة هذه التي نحتفل بذكراها يافيدل، وأطفال الثورة حفاة عراة، يعملون حتى هذه الساعة من الليل، بل ويمنعون من الإحتفال في ذكرى الثورة.. فهل يجوز هذا يا صديقي؟!
بعد ثلاثة أيام وبناء على هذا الموقف، أصدر فيدل قانون” المرسوم الأبيض” الذي يمنع عمالة الأطفال والشباب بفترة الدراسة، ويحمّل الدولة مسؤولية معيشتهم وتعليمهم، كما يمنع عمالة الأطفال من الإناث، إلا بموافقة خطية من فيدل نفسه. ألم أقل لكم أن مارادونا شيوعي، لكن على الطريقة (المارادونية) ؟!