بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
تعددت السجون والمعتقلات والظلم واحد. وتفنن الجلادون في التنكيل والتعذيب وتحطيم معنويات السجناء القابعين خلف القضبان. .
حدثني شقيقي (هاشم) الذي كان مسجونا في (الفضيلية)، ثم اطلقوا سراحه في الشهر الأول من عام 1987 ليموت مقتولا في ظروف غامضة بعد خروجه من السجن. قال لي: كانت إدارة السجن وبعد استكمال جولاتها اليومية التعسفية في ممارسة القهر والاساءة والإذلال، كانت تبث بمكبرات الصوت اغنية (كان ياما كان) في كل ليلة، وتعيدها عشرات المرات. فنجهش بالبكاء، وتتعالى اصواتنا بالنحيب والعويل. نتفاعل معها في الغرف الرطبة والزنازين الموصدة، ووراء الأسوار العالية المحكمة بالحراسات المشددة، فتتحول غربتنا القاسية إلى آهات مشحونة بالألم واللوعة والتوق إلى الحرية. فيختلج في صدورنا الشوق والحنين للأم والأهل. .
يبدو ان اجهزة الامن وبعد استعانتها بكل وسائل التعذيب الجسدي وجدت ضالتها في بث هذه الترنيمة الحزينة بصوت المطربة ميادة الحناوي، من الحان وكلمات بليغ حمدي. تقول كلماتها:
كان ياما كان، كان ياما كان
الحب مالي بيتنا
ومدفينا الحنان، مدفينا الحنان
زارنا الزمان سرق منا فرحتنا
والراحة والأمان، والراحة والأمان. .
لقد ترددت كثيراً في كتابة هذه المقالة وذلك لعلمي ان بعض الذين ذاقوا مرارة التعذيب والقهر في السجون سوف ينكرون هذه الحقيقة. لكنني اضطررت لكتابتها كلما تذكرت شقيقي الذي اقتادوه مكبلاً بالاصفاد لأسباب مجهولة إثناء أداءه امتحانات نصف السنة للصف الخامس الإعدادي وهو بعمر السادسة عشر. .
قالوا عند الإفراج عنه بعد أكثر من عام: ان الدولة كانت مرغمة على اعتقال نماذج عشوائية من أجل امتصاص ردود الافعال التي قد تطفو على السطح بعد سقوط مدينة الفاو بيد الايرانيين. .
هذا ما قاله مدير شعبة الامن في مدينة المعقل بالبصرة في كلمة القاها على قاعة نقابة الموانئ اثناء الافراج عنهم. .
كان (هاشم) يدندن بهذه الترنيمة الحزينة التي حفظها خلف القضبان، يرددها دوماً في سره، ولا يفصح بها أمام أحد، يمسح دموعه ويحبس آهاته. فهنالك دائما علاقة قوية بين الخوف والحزن وعويل النائحات. . .