بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
وقعت الشعوب الفقيرة منذ زمن بعيد تحت رحمة الحكومات العسكرية، واستمرت تلك الحكومات في بسط نفوذها، وتوسيع قواعدها على وجه الخصوص في القارة الافريقية. وهي الآن تحكم الناس هناك بقوة الحديد والنار، وبقراراتها الارتجالية المستمدة من الاحكام العرفية. وأصبحت لدينا الآن حكومة عسكرية في بوركينافاسو، وحكومتان عسكريتان في السودان: حكومة يقودها البرهان، وحكومة يقودها حميدتي. بينما صادق البرلمان المصري على قانون غير عادل يمنح قادة الجيش وكبار الضباط حصانة مفتوحة ومزايا واسعة، ويوفر لهم الحماية الكاملة في مواجهة اتهامات واسعة حول تورط كبار ضباط الجيش والأمن والمخابرات بارتكاب انتهاكات غير مسبوقة في تاريخ مصر. .
فقد توسعت قواعد الحكم العسكري في مصر، وتغلغلت في كل المهن والاختصاصات، واستحوذت على المناصب والمراتب والدرجات الخاصة. ونسفت معايير التوصيف الوظيفي. فالوزراء كلهم من الجيش، والمحافظون من الجيش. و رؤوساء الهيئات من الجيش، والمدراء والسفراء والوكلاء والقناصل كلهم من ضباط الجيش. حتى أصبح الشعب المصري يعيش في ثكنات معسكر كبير، ويخضع لأوامر قائد المعسكر. وتحول الاعلام بكل تفرعاته إلى سرايا وكتائب تابعة لمديرية التوجيه المعنوي أو التوجيه الحربي. .
كانت القاب الباشوية تتصدر أسماء الوزراء والامراء في الحقبة الملكية التي سبقت الانقلاب العسكرية بقيادة عبدالناصر، اما الآن فلا تجد وزيراً أو سفيراً إلا يُؤطر أسمه برتبة مهيب أو مشير أو فريق أو لواء أو عميد أو عقيد. وبات لرئيس الجمهورية حق استدعاء ضباط كبار إلى الجيش للخدمة مدى الحياة، ومنحهم جميع المزايا والحقوق المقررة للوزراء في الحكومة العسكرية القابضة. حيث تتراوح التقديرات حول مدى سيطرة القوات المسلحة على الاقتصاد بين 40% وفق تصريحات صحفية لنجيب ساويرس رجل الأعمال المصري في مارس/آذار الماضي، وما بين 45% و60% وفقا لمنظمة الشفافية الدولية، فيما يرى البروفيسور روبرت سبرنجبورج من المعهد الإيطالي للشؤون الخارجية، أنه منذ عام 2013 تحولت القوات المسلحة المصرية من كونها لاعباً كبيراً في الاقتصاد المصري إلى فاعل مهيمن بنسبة تفوق كل التوقعات. وهكذا توسّعت القدرات المالية لإمبراطورية الجيش، الذي لا تخضع ميزانيته المفتوحة لسلطة الجهات الرقابية التي هي من العسكر. .
فقد تمت عسكرة الدولة المصرية منذ ثورة أو إنقلاب الجيش عام 1952 على الملك فاروق وبعد وصول عبد الناصر إلى السلطة عقب إزاحة الرئيس محمد نجيب. .
ولا يظهر السيسي الآن إلا والجنرالات من حوله، على يمينه و على شماله، واصبح السيسي رجل الجيش في الدولة، فلا خطاب إلا من خلال الندوات التثقيفية للقوات المسلحة، ولا إحتفال إلا وقيادات الجيش كاملة وقادة الفيالق والألوية جالسين بكامل قيافتهم الحربية، ويندر أن ترى بين صفوفهم شخصاً يرتدي زياً مدنياً. .
والسؤال الذي يطرح نفسه كلما استعرضنا امبراطورية الجيش المصري. هو ما جدوى الكليات والمعاهد العلمية التخصصية التي تؤهل المواطنين في الجامعات لاكتساب المهارات والخبرات والمعارف في المجالات الوظيفية والتنفيذية المتعددة إذا كان خريجو الكليات الحربية هم الذين يتحكمون بالبلاد والعباد ؟. وهل ستستمر الأوضاع على هذه القاعدة الهشة التي نسفت كل المعايير والضوابط، وربطت مصير الشعب بالجيش والى الجيش ومن الجيش وفي الجيش ؟. فالشعب المصري يعيش الآن في معسكر كبير مساحته 1,002,000 كم². ومع ذلك فأحواله أفضل بكثير من البلدان العربية التي تتحكم بها الميليشيات والفصائل المسلحة. .
ربنا مسنا الضر وانت ارحم الراحمين. .