بقلم: فالح حسون الدراجي ..
مرت أمس الأول، الذكرى الخامسة والستون لثورة الرابع عشر من تموز، التي قادها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم.. تلك الثورة التي تمكنت خلال خمس سنوات فقط من تحقيق منجزات عظيمة يعترف بها الأصدقاء والأعداء على حد سواء – منجزات ساطعة حققتها حكومة الثورة رغم نفوذ وتعدد قوى الثورة المضادة، واتساع قاعدة التآمر عليها .. إذ اصطفت ضد الجمهورية العراقية الفتية منذ اليوم الاول لتأسيسها، دول وقوى وشركات لم تكن تصطف يوماً من قبل لكنها توحدت هذه المرة خلف (القطار الامريكي)، وإلا كيف اتفقت بريطانيا بحكومتها وشركاتها الاحتكارية مع الجمهورية العربية المتحدة، بزعامة (الثوري الإشتراكي) جمال عبد الناصر؟، وكيف توافقت الأردن مع عدوتها السعودية، وايران الشاه، مع تركيا، وحزب البعث العربي (الاشتراكي)، مع اسرائيل وفرنسا، وقوى الرجعية العربية والعراقية؟، وكيف اجتمع كل هؤلاء على محاربة الثورة واسقاط زعيمها.. مستخدمين كل ما يمكن استخدامه من مال وسلاح واستخبارات واعلام موجه وعشائر مسلحة لتحقيق هدفهم الإجرامي، حتى تمكنوا من تحقيقه في الثامن من شباط عام ١٩٦٣، فأعدم الزعيم قاسم، ورفاقه الذين كانوا يمثلون خيرة الضباط الأحرار الوطنيين، امثال وصفي طاهر وجلال الأوقاتي والمهداوي وطه الشيخ أحمد وعبد الكريم الجدة وغيرهم ..
لقد سلكت الأنظمة والقوى المعادية للثورة طرقاً تآمرية عديدة قبل أن تحقق مبتغاها في الثامن من شباط، وقد تمثلت بعدد كبير من المؤامرات والإنقلابات، ومحاولات الإغتيال للزعيم، ومن بينها حركة عبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري والطبقچلي، في آذار ١٩٥٩، ومحاولة عصابة البعث الفاشلة في اغتيال الزعيم قاسم في شارع الرشيد ١٩٥٩، ومحاولة عبدالسلام عارف لقلب نظام الحكم في (أيلول 1958)، ومؤامرة احمد حسن البكر في (تشرين أول 1958)، ومحاولة اغتيال الزعيم على يد عبد السلام عارف في (تشرين أول 1958)، وكذلك محاولة صالح مهدي عماش اغتيال عبدالكريم قاسم في (تشرين الثاني 1958)، وغيرها من المحاولات الإجرامية.. ولعل مؤامرة رشيد عالي الگيلاني التي كان مقرراً الشروع بها في مساء الثامن من كانون الثاني ١٩٥٩، أي بعد ستة أشهر من ثورة ١٤ تموز، كانت الأخطر تقريباً، لكونها استندت الى تحالفات متعددة، ضمت عدداً من الإقطاعيين وعدداً من الضباط الكبار المحسوبين على الجناح القومي، كما حظيت بدعم دولي مشبوه تقف الجمهورية العربية المتحدة في مقدمته، فضلاً عن ثقل المتآمرين، وأهمية مناصبهم الحكومية، إذ ضمت زمرة الإنقلاب كلاً من مبدر الكيلاني – ابن أخ رشيد الگيلاني- والمحامي عبد الرحيم الراوي، وعبد الرضا سكر، بالإضافة إلى عدد من شيوخ العشائر، وعدد من الضباط، بينهم مدير الشرطة العام العقيد (طاهر يحيى) وآمر الكلية العسكرية العقيد (عبد اللطيف الدراجي) ورئيس الاستخبارات العسكرية العقيد (رفعت الحاج سري)، والزعيم عبد العزيز العقيلي قائد الفرقة الأولى في الديوانية، والعقيد الركن (عبد الغني الراوي) آمر الفوج الثالث من اللواء الخامس عشر بالبصرة وغيرهم من ذوي الرتب العسكرية المختلفة..
ورغم عشرات الادلة، واعترافات المتهمين، وصدور أحكام الاعدام بحق المتآمرين، إلا ان عبد الكريم قاسم عفا عنهم جميعاً، بل وأعادهم الى مناصبهم الكبيرة أيضاً، ليتآمر أغلبهم عليه بعدها وينحره في انقلاب شباط الدامي عام ١٩٦٣ ..!!
لقد كانت خطة انقلاب الكيلاني مكونة من مخططين.. الاول يتمثل باعتقال الزعيم أو قتله في بيته وليس في وزارة الدفاع، وذلك بسبب قلة عدد واسلحة الحماية على بيته.. ثم تتم تصفية الضباط المؤيدين للزعيم، وتعلن أسماء الحكومة الجديدة وينتهي الأمر.. أما المخطط الثاني فيتمثل باشاعة الفوضى والاضطراب في البلد عن طريق قطع خطوط الهاتف، وإخراج القطارات عن سكتها، واعتراض البريد، ووضع العوارض في الطرقات، بحيث يتم التركيز على العشائر في جنوب العراق والفرات الأوسط، وعندما يتم لهم ذلك يتقدمون بطلب استقالة الزعيم قاسم، مدعين أنه أوصل البلاد إلى الخراب والانقسام، وإذا رفض الاستقالة يتحرك الضباط المتآمرون لإسقاطه بالقوة، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الكيلاني، ويعلن فور نجاح المؤامرة عن انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة، ويتم إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، والقيام بحملة لإبادة الشيوعيين وأنصارهم .. لكن العناصر الاستخبارية التابعة للزعيم كشفت المؤامرة قبل البدء بها بساعات قليلة..
وحول المخطط الأول لاعتقال الزعيم او اغتياله في بيته، يحكي لي صديقي التقدمي جمال زيا جميل، حادثة جرت معه في شهر كانون الثاني من عام ١٩٥٩ وهو لم يكن يعلم عما كان يحدث من أمر خطير في العراق عصر ذلك اليوم ..!
كان بيت الزعيم عبد الكريم قاسم يقع في عرصات العلوية، وكانت هناك حديقة صغيرة على شكل بيضوي، تقع وسط مجموعة من البيوت، من بينها بيت صديقي جمال، وبيت المربي الصابئي التقدمي نعيم بدوي، في حين كان بيت الزعيم يقع في ظهر هذه الحديقة الصغيرة .. وفي إحدى (عصريات شباط )، كان الفتى جمال يلعب مع أصحابه، كرة القدم في الحديقة، كما هو الحال في كل يوم بعد عودتهم من المدرسة.. لكنهم فوجئوا ذلك اليوم، بمرافق الزعيم حافظ علوان، يطلب من هؤلاء الفتية مغادرة الحديقة والعودة الى بيوتهم فوراً، وعندما سألوه عن سبب ذلك، قال لهم: ( الزعيم شويه تعبان ويريد ينام، واصواتكم عالية)! وافقوا على ذلك، لكن جمال زيا اشترط على حافظ علوان جلب صورة الزعيم مقابل انسحابهم .. فوافق مرافق الزعيم، وجلب له الصورة فعلاً بعد اسبوع، مذيلة بتوقيع الزعيم شخصياً .. لقد استغرب الفتية أمر إبعادهم، خاصة وأنهم كانوا يلعبون كل يوم في هذه الحديقة، وفي هذا الوقت، وبوجود الزعيم في البيت أيضاً، فلماذا لم ينزعج إلا في هذا اليوم، وهل أن الزعيم فعلاً (تعبان ويريد ينام)، أم أن امراً ما يحدث، لاسيما وأن جمال قد لاحظ وجوداً عسكرياً استثنائياً حول بيت الزعيم ذلك اليوم، بل وإن حركة غير طبيعية تحصل في المنطقة أيضاً.. الآن، وبعد كل هذه السنين، تتكشف الأمور، وتصبح جلية، حيث يبدو أن الزعيم لم يكن تعباناً ولا منزعجاً من أصوات جمال وأصحابه كما ذكر مرافقه، إنما كان يعرف أن ثمة مؤامرة تحاك ضده، وضد الثورة، وقد يكون موعدها في الوقت ذاته الذي يلعب فيه الفتية كرة القدم قرب بيته، لذلك خاف الزعيم عليهم من أذى ورصاص المتآمرين.. فطلب إبعادهم عن موقع الخطر.. ولم ينس صديقي جمال هذا الموقف النبيل من قبل الزعيم، لذلك تراه يشارك مع أشقائه في التظاهر والتصدي لانقلاب شباط عام ١٩٦٣، رغم أنه تعرض للسجن في عهد الزعيم، وقد قضى فترة سجنه بصحبة الشاعر الكبير مظفر النواب والقائد الشيوعي الشهيد حمزة سلمان في سجن الموقف العام ..!