بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
نشأ عبدالفتاح على ضفاف شط العرب. وترعرع بين قرى (السيبة) و (سيحان) من ضواحي الفيحاء. فحمل طيبة الريف وبراءة العصافير المغردة بين بساتين النخيل والحناء. لكنه انتقل إلى المدينة، وعاش وسط مجتمع ينال فيه الإنسان إحترامه على قدر ما يملك من مال. ويحظى بالأمن والاستقرار على قدر علاقاته الوصولية بالاحزاب المتنفذة. .
وفي يوم من الأيام تلقى دعوة لحضور ندوة أقامتها احدى التنظيمات المسلحة المطالبة بالإصلاح. سمعهم يتكلمون عن التنمية والتغيير والتجديد. وكانوا يحملون لافتة مكتوب عليها: (العدل أساس الملك)، وأخرى مكتوب عليها (الإصلاح الجاد يستدعي التضحية). فقال لهم، وبراءة الاطفال في عينية: هل تريدون إصلاح عناصر تنظيمكم. أم تريدون إصلاح الناس بطريقتكم الخاصة ؟. فزجره كبيرهم، وبصق آخر بوجهه. كانت فوهات بنادقهم موجهة إليه. ثم اوسعوه ضرباً وركلاً. واختتموا تعاملهم معه بصفعة من هنا ودفرة من هناك. وما هي إلا دقائق معدودات حتى تعالت الصيحات وتكاثرت اللعنات، ولم ينج منهم إلا بشق الأنفس. فاضطر للهروب إلى أخواله في قرية (الزيادية). تطارده كوابيس الموت بسبب كلمة قالها من غير قصد. .
عاد عبدالفتاح إلى المدينة بعد غياب بضعة أشهر، وبينما كان يشرب الشاي مع صديقه في احدى مقاهي البصرة، شاهد احد السياسيين يتحدث بلباقة في لقاء متلفز عن العفة والشرف والاستقامة والإصلاح، وعن تجربته الشخصية في دحر الفساد والانتصار عليه. . لم يكن عبد الفتاح يعرف المتكلم، لكنه أبدى اعتراضه بصوت عال، فقال: انظروا إلى هذا المتكلم. انه فاسد آخر يرتدي جلباب الإصلاح. انظروا إلى ساعته الذهبية الثمينة، وخواتمه المرصعة بالاحجار الكريمة. ومسبحته العقيق التي تشبه مسبحة أمير من البرامكة. فطردوه من المقهى بعدما أغرقوه بسيل من الشتائم والصفعات الساخنة. .
نصحه أهله بالتواري عن الانظار حتى تتغير الظروف وتهدأ النفوس. .
عاد عبدالفتاح بعد عام فرأى الناس فى السوق عند الآذان يُغْلقون محلاتهم وينطلقون جريا ويتزاحمون كى يلحقوا بالصف الأول، فقال لهم: كُلُوا الحلال، وأدوا الحقوق، ولا يضُرُّكم إن صليتم فى الصف الأخير، فلم يسلم من غضبهم وتهورهم. .
قبل بضعة أيام شاهدته يتحدث مع نفسه بصوت مسموع، مكرراً مقولة الدكتور علي الوردي: (إذا تعلمت الدين من الثعلب فسوف تعتقد تدريجياً ان سرقة الدجاج فضيلة). .