بقلم: فالح حسون الدراجي ..
تلقيت قبل يومين اتصالاً هاتفياً من شقيق عربي – سعودي- ربطتني به علاقة أخوية طيبة، نشأت بيننا قبل خمس سنوات .. وقد أروي في مقال لاحق قصة نشوء هذه العلاقة.. المهم أن اتصال هذا (الشقيق) أمس الاول لم يحمل النبرة الودودة التي كنت اجدها في صوته عبر المكالمات والبصمات الصوتية السابقة، ولا تلك المشاعر النبيلة التي كانت تعطر رسائله عبر السنوات الخمس ..! وباختصار فقد كان اتصاله استفزازياً إن لم أقل عدوانياً.
وكي لا أدخل القارئ في متاهات مظلمة، سأختصر كلامي وأقول، إن شقيقي السعودي هذا (زعلان)، بسبب (مبالغة) العراقيين في ردة فعلهم (الثورية) تجاه ما يحصل في غزة، وهو ينسب هذه (الردة) الى الضغوط الايرانية على العراق، حتى أنه قال نصاً: « بدليل إن ردود افعال الدول العربية التي لا تخضع لنفوذ إيران كالاردن والسعودية ومصر والبحرين والكويت والمغرب وتونس وغيرها، هي ردود فعل طبيعية، متزنة، ليس فيها تهويل، ولا قصف صواريخ، ولا الوقوف على حدود بعض الدول العربية القريبة من اسرائيل، من اجل إحراج حكومات وشعوب هذه الدول.. في حين ان ردود أفعال الدول التي تخضع للهيمنة الايرانية مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن، فهي ردود فعل متشنجة، لا تخلو من التهور الذي سيكون ثمنه باهظاً على أصحابها».
ثم انهى الاتصال بقوله» أنا واثق أن شعب العراق، مرغم على اشتراكه في حرب غزة، لأني اعرف أن العراقيين شيعة وسنة، لايحبون حماس، بل ولا يحبون الفلسطينيين حتى.
وعندما أنهى كلامه أراد أن ينهي الاتصال، فقلت له: إسمع يا أبا فلان، أقسم لك، إن أنهيت هذا الاتصال قبل أن تسمع جوابي على ما (تفضلت به)، فسيكون هذا آخر اتصال بيننا، لذا أرجو أن تسمعني كي انهي كل كلامي، خاصة ونحن نتحدث عبر الواتساب المجاني الذي لا يكلفك ريالاً واحداً، فضلاً عن أنه خط آمن، لا أحد يتنصت عليك في الرياض أو جدة..
قال بتثاقل : تفضل ..
قلت: أولاً، إن علاقة العراقيين بقضية فلسطين قديمة جداً، فهي بدأت منذ أن بدأت الحركة الصهيونية العمل لجعل فلسطين موطناً لليهود، وإن العراقيين – عسكريين ومدنيين – حملوا راية الدفاع عن فلسطين، و حملوا السلاح أيضاً قبل أن يحمله غيرهم من العرب وغير العرب .. وعندما تسألني عن دليلي وشاهدي على ما أقول.. فلن أقول لك سوى انظر لمقابر الشهداء العراقيين في (أطلس فلسطين)، ودقق جيداً في لوحات الشرف المطرزة بأسماء هؤلاء الشهداء الميامين .. واقرأ تواريخ استشهادهم، وسترى أن اول شهيد عراقي سقط في ارض فلسطين ورواها بدمائه الطاهرة عام ١٩٣٠، أي قبل انبثاق الثورة الاسلامية الايرانية بحوالي (خمسين عاما) ..! ثانياً، إن العراقيين (مدمنون) على التعاطي مع حقوق الشعب الفلسطيني والوقوف معه في نكباته ومحنه القاسية، أي قبل محنة غزة الحالية بزمن طويل، وكان ذلك الدعم يأتي عبر استضافة الفلسطينيين، وايوائهم في مدن العراق، وتقديم كل ما يحتاجون اليه من خدمات ومتطلبات معيشية أسوة باخوتهم، العراقيين، بل واحياناً يفضل الفلسطيني في العراق على المواطن العراقي، ناهيك من تقديم العون والدعم المالي والمعنوي للفلسطينيين المقيمين في الضفة وغزة وبقية مدن فلسطين .. وهذا الأمر لم يحصل في زمن الحكم البعثي فقط، إنما بدأ منذ حكم الملك غازي عام ١٩٣٣، وتواصل مع حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، ولم ينته حتى هذه اللحظة التي يترأس فيها محمد شياع السوداني حكومة العراق.. ويكفي أن اقول لك، إن العراقيين لم يجتمعوا يوماً على أمر كما اجتمعوا اليوم على دعم شعب غزة بغض النظر عن رأيهم في حركة حماس، فالقضية متعلقة باطفال ونساء وفقراء غزة، وليس بحركة حماس وسياستها.. كما أن الدعم العراقي الشامل لم يتوقف عند مؤسسة الحكم الرسمية العراقية، إنما يمتد لجميع الطبقات والتيارات والأطياف العراقية داخل منظومة الحكم وخارجها، فمثلاً، أصدر الحزب الشيوعي العراقي قبل خمسة أيام، وللمرة الثانية خلال شهر، نشرة داخلية تتضمن متابعة سياسية صادرة عن اجتماع مكتبه السياسي، حول تطورات العدوان الاسرائيلي على غزة، وقد جاء في هذه (المتابعة ) من القول الجريء، والدعوة للتضامن، والوقوف مع غزة، ما لم أسمعه من قبل على لسان أي حزب آخر .. وكم تمنيت أن أنقل لك بعضاً من سطور هذه المتابعة، لكني أعلم أن هذه النشرة (داخلية) لا يسمح بتداولها خارج تنظيماته الحزبية..
أما التيار الديمقراطي الذي يضم قوى قومية ويسارية وديمقراطية عديدة، فقد صال وجال خلال هذه الفترة، سواء بمنظماته، او بكوادره ومثقفيه، وأكاديمييه، وقد كشف عبر عدة فعاليات جماهيرية وثقافية فاعلة عن دعمه لغزة وشعبها البطل .. أما موقف القوى والمنظمات والحركات الإسلامية الداعمة لشعب غزة، فحدث عنه بلا حرج.. إذ بات هذا الموقف واضحاً، سواء أكان موقف المقاومة الاسلامية الذي لا يحتاج لأية إضاءة أو اشارة توضيح، أو كان موقف التيار الصدري الذي يعد الموقف الأبرز في الساحة الشعبية الداعمة لشعب غزة.. والشيء نفسه يقال عن بقية القوى الاسلامية بمختلف أحزابها ومنظماتها ومذاهبها وطوائفها في العراق.. كما أحب أن أذكر المواقف المسيحية والمندائية والأيزيدية العراقية الداعمة لصمود غزة .. لقد أردت من مجمل هذا الاستعراض أن أقول لك إن العراقيين وقفوا من قبل، ويقفون اليوم مع شعب غزة، دون ضغط، او توجيه، أو وصاية من احد، سواء أكان دولة، ام حلفاً اقليمياً، ام قوى سياسية مسلحة.. لأن فلسطين كانت ولم تزل تعيش في ضمائر وافئدة العراقيين، فمذ أن كنا طلاباً صغاراً في صفوف الدراسة الابتدائية، ونحن نتظاهر في الشوارع تأييداً لشعب فلسطين، وحتى بعد أن كبرنا، لم نتوقف عن أداء هذا الواجب القدسي، فضلاً عن تطوع شبابنا في صف المنظمات الفدائية، وقد استشهد الكثير منهم في فلسطين منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً.. ولنا في مقبرة الشهداء الفلسطينيين في بيروت رفاة رفاق وأحبة عراقيين كثر، وفيهم أسماء بارزة.
كما لا أظن أن شاعراً عراقياً واحداً لم يكتب قصيدة حب عن فلسطين بدءاً من الجواهري الكبير، وليس انتهاء بأصغر شاعر عراقي..ولا في العراق فنان واحد لم يغن لفلسطين، او يرسم لوحة لفدائي فلسطيني.. فكيف تسلبنا أيها الشقيق ميزة نتميز بها عن غيرنا.. خصوصاً وأننا جميعاً، سواء أ كنا علمانيين أو اسلاميين او غيرهما، نقف مع غزة، وليس لأحد -مهما كان – سلطة يفرضها علينا أو على قرارنا الوطني.. خذ مثلاً ولداي وابنتي، فهم الآن – وأنا اتخابر معك-يتظاهرون في منطقة (الداون تاون) في مدينة ساندييغو الامريكية، وهم يرتدون (اليشاميغ) الفلسطينية ويطلقون الهتافات الداعمة، والنداءات المؤيدة لشعب غزة، ومعهم مئات الشباب العراقيين، فهل هناك ضغوط لإيران على اولادي أيضاً، وهم الذين نموا وترعرعوا وكبروا في امريكا، ولا علاقة لهم بإيران، مع جل احترامي للشعب الايراني الشقيق .. قد تكون ثمة علاقة بين الشعبين العراقي والايراني، وقد تصل هذه العلاقة الى مستوى التنسيق الحكومي بين البلدين أحياناً، لكنها لن تصل قطعاً الى المستوى الذي يسمح لايران بالتدخل في اعماق الوجدان الشعبي العراقي، وصياغة المشاعر العراقية بما تحب وترغب السياسة الحكومية الايرانية.. إن في كلامك ياصديقي اساءة لنا ولكرامتنا الوطنية والقومية.. لذا اقول لك: إن العراق كان وبات وسيبقى للعراقيين فقط.. وأظنك فهمت (المسج) ياشقيقي المحترم (جداً) !