بقلم: فالح حسون الدراجي ..
في البدء، أودّ أن أعترف واقول، إني لم أكن معجباً بقصيدة الشاعر الكبير مظفر النواب (القدس عروس عروبتكم).. وطبعاً فإني لم أكن الوحيد الذي لم تعجبه هذه القصيدة، بل كان الكثير من الشعراء العرب والعراقيين، فضلاً عن عدد غير قليل من جمهور ومحبي مظفر النواب الذين لهم رأي في القصيدة، او في بعضها..
وسأذكر نموذجاً مما كتبه هؤلاء عن القصيدة، التي ستصبح لاحقاً القصيدة الاشهر في تاريخ الشعر العربي الحديث ..
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقعت في يدي بالصدفة مجلة (الهدف) الفلسطينية، التي كانت تصل الى العراق مع عدد من الصحف والمجلات الثورية الفلسطينية الأخرى، وفي تلك المجلة قرأت لاول مرة قصيدة وتريات ليلية للشاعر مظفر النواب، وهي على شكل أجزاء، ومن بين تلك الأجزاء أو (الحركات)، قصيدة (القدس عروس عروبتكم).. وما ان انتهيت من قراءة هذه القصيدة، حتى قلت في نفسي: هذا ليس مظفر النواب قطعاً، ماهذه البذاءة والشتائم، كيف يقول النواب (أولاد القحبة)، وكيف يقول : “
القدس عروس عروبتكم؟
فلماذا ادخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها.. وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض ؟!
فما أشرفكم؟!
أولاد القحبة ..
هل تسكت مغتصبة؟!
أولاد القحبة..
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم..
تتحرك دكة غسل الموتى،
أمَّا أنتم لا تهتز لكم قصبة
تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا
اعترف الان امام الصحراء
بأني مبتذل وبذيء وحزين كهزيمتكم
يا شرفاء مهزومين
ويا حكاماً مهزومين
ويا جمهوراً مهزوماً
ما اوسخنا …ما أوسخنا …ما أوسخنا.. ونكابر !
ما أوسخنا
لا استثني احداً ..
هل وطن تحكمه الافخاذ الملكية ..
هذا وطن أم مبغى ؟..”
الى آخر القصيدة المليئة بالشتائم والمزدحمة بمفردات القهر والألم والسخرية المرّة ..
نعم، قلت كيف يمكن لشاعر مصنوع من خلطة سريالية تحتوي كل هذا الحلم والجمال والموهبة والجنون والحب ونصاعة القلب، والضمير الأبيض، والوطنية، والإنسانية، أن يكون عذباً، وقاسياً بل (وشتاماً) في آن واحد ؟!
وكيف يمكن لشاعر يرسم قصائده بريشة الجمال، ويسقي مخيلته الخضراء بقطرات الندى الشفيفة.. فتزهر وروده فواحة عبقة فوق كتب الفتيان، وبين دفاتر الصبايا (الخاصة)، وكيف يمكن لشاعر رقيق أرق من ورق (البافرا)، مثل مظفر النواب الذي قال يوماً : (جفنك جنح فراشة غض.. وحجارة جفني وماغمض) وقال في يوم آخر: (حلاوة ليل محروگة حرگ روحي.. ) وقال ايضاً: ” أترف من أچفافي المهر ..
قندون … ما ضايگ شكر
يا حلو يا بوسة سهر …
يا ترف يا ييزي قهر
شيضرك .. بكل شته الولهان لو صحوة مطر ؟
ولساع مشدودة شبگتك
عل الخصر
والرگبة من تلتاف للبوسة
جسر ..”.
أقول كيف لشاعر بهذا البهاء وهذه العذوبة ان (يضرب) الدنيا كلها؟!
لم أكن وقتها أعرف أن هذا الكائن الجميل الذي فتحت عيني على شاعريته وأحلامه وروعة أمنياته، يمكن أن يكون خشناً وثورياً، ويحمل يوماً بيده البندقية، ويقاتل، و(يقتل) أعداءه في اهوار العراق، واغوار فلسطين، وظفار،وأرتيريا، حتى لو كان أعداؤه مجرمين وسفلة وطغاة وقتلة .. ؟!
لقد كنت مسحوراً برقته، وباخضرار لغته الباهرة.. ولأني كنت في مراهقتي الشبابية والشعرية آنذاك، فقد بكيت من شدة تأثري وأنا أقرأ قصيدته : (للريل وحمد).. تلك القصيدة التي قال عنها الشاعر سعدي يوسف عندما قرأها: إنّه يضع جبين شعره، تحت عجلات “ الريل وحمد”.. !
لقد أحببت النواب، ذلك الشاعر الحالم، الذي انطلق بقطاره من محطة (الكاظمية)، ولم يتوقف قطار أمله الصاعد نحو حلمه (الشيوعي) حتى لحظة رحيله الأبدي.. وهل هناك أمل أروع وادق من تصويره لهذا الأمل الفاتن حين قال :
” يجي يوم ونرد لأهلنه
يجي يوم إنلم حزن الأيام
وثياب الصبر.. ونرد لأهلنه
يجي يوم.. الدرب يمشي بكيفه.. ويردنه الوطنه ..!
يجي يوم.. أنفرّگ الغربة على العالم ملبس
والحزن طاسات حنّة..
زغارنه يعرفون
ألهم ظهر بالدنيا
ومدينة وناس
وجيران و گرايب
ما يگللهم طفل:
غربة عراقيين …” حتى آخر حلمه المطرز بخيوط الامل الذهبية .. لقد كان مظفر النواب شاعر الفقراء.. ومعبود الطبقات البرجوازية ايضاً، وشاعر الشعراء كذلك وهي مفارقة قلما حدثت مع شاعر عربي آخر.. لذلك لم يكن غريباً ان تخلق أمسياته الشعرية الحية في البلدان العربية، ازمات مرورية وامنية وسياسية.. فقد كان مظفر يرتقي بالجمهور الحاضر الى ذروة الجمال والروعة والانتشاء حد التيه، ثم ياخذهم معه الى حافات الجنون والرفض لكل ما هو سائد وراكد من قيم بالية واوضاع مريضة، واحلام ضائعة في الوطن العربي، ليفجرها جميعاً امامهم، لاسيما حلم فلسطين الضائع.. إن النواب لم يكن شاعراً تقليدياً أو عابراً كغيره إنما كان ظاهرة شعرية، وسياسية و(خلافية) ايضاً، يتوجب فهمها و دراستها جيداً، خاصة وهي ظاهرة لا يمكن تكرارها حتى بعد مئة جيل، شأنها شأن كل الظواهر الفذة في التاريخ.
وهنا أعود وأقول: لماذا أصبح النواب، وهو الشاعر الرقيق والحالم، والرسام والموسيقي والمغني، (خشناً)، وقاسياً هكذا، بحيث يصل به الامر الى ان يقلب الطاولة على الجميع – حكومات وأنظمة وأحزاباً وقوى وطوائف- وكانت قصيدة القدس عروس عروبتكم ذروة التحدي والاصطدام العنيف مع المؤسسة الرسمية العربية، مستخدماً لغة حادة، ومفردات لاذعة وبذيئة؟!
يقول الكاتب العراقي باقر ياسين في كتابه (مظفر النواب حياته وشعره) الصادر في دمشق عام ١٩٨٨ :”لقد كان بإمكان النواب أن يصل إلى نفس الهدف التحريضي دون الدخول والتورط في سلسلة الشتائم والكلمات النابية والتعابير القاسية ودون أن يكون بحاجة للغوص بتفاصيل ما جرى في غرفتها”..
ويقول الشاعر الاردني المقيم في لندن، امجد ناصر:” أعجبت بغير عملٍ شعريٍّ لمظفر النواب، فصحى وعاميةً، ولكني لم أُعجب بقصيدته التي كَتَبَتْ شهرته، بأحرفٍ من غضب: القدس عروس عروبتكم ..
ويكمل ناصر مقاله قائلاً: حتى محمود درويش نفسه، لم يحتمل هذا البعد الشتائمي، حيث دار نقاش بيننا، على ما اتذكر حول تعبير “أولاد القحبة” على الرغم من أن مظفر يفعل ذلك من أجل فلسطين..”.
لذا-وهذا رأيي الشخصي-
فإن النواب اضطر يوماً ليردّ على من يحمل هذا الرأي المنتقد، حين القى قصائد قال فيها: “اغفروا لي حزني .. وخمري .. وكلماتي القاسية،
بعضكم سيقول بذيئة، لابأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه”!
لقد اراد النوّاب باسلوبه القاسي أن يقول: “إنّه في مواجهتنا لعالم الحلم والطموح ثمّة عالم قميء ووسخ نعانيه ولا بد من زرعه كشهادة للتاريخ، شهادة يعود إليها إنساننا العربي ربما بعد قرنٍ .. – وقد صدقت نبوءته تلك ..فها نحن نعود اليها اليوم بعد اكثر من نصف قرن.. فـ (أولاد القحبة) الذين قصدهم مظفر النواب في تلك القصيدة، مازالوا (أولاد قحبة) حتى هذه اللحظة، بل وربما ازداد عددهم كثيراً..
ختاماً أودّ أن اسأل وأقول: بماذا سيصف النواب (أولاد القحبة)، بعد أن (فاحت) جيفتهم حتى أزكمت الانوف.. وظهرت مواقفهم الخيانية بوضوح بعد ان كانت مستترة ومخفية على الكثير منا ؟!
معذرةً أبا عادل، اغفر لي خطئي رجاءً، فما يحدث اليوم في غزة من جرائم، وما يقابله من تخاذل وخيانة وجبن وعمالة في قيادات العرب الحكومية وغير الحكومية، لا يقابله ولا يعادله غير ما جاء في قصيدة القدس عروس عروبتكم، او ربما ستبتكر لغة اكثر بذاءة منها، لو كنت حياً وترى مانراه.. وقد تبصق بوجوههم أيضاً – وانا لا استغرب ذلك منك- لانهم (اولاد قحبة) فعلاً، وقد تأكد لنا ذلك طبعاً !!.