بقلم : اسراء الجوراني ..
على الرغم من ان مواقع التواصل الاجتماعي بدأت في الظهور منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي, الا ان تأثيرها لم يتحقق على ارض الواقع الا مع بداية العقد الاخير, سيما بعد انشاء موقع (فيس بوك) و(تويتر) و(انستغرام) والتي لاقت رواجا ونجاحا منقطع النضير لما تقدمه من خدمات, ومع انتشار هذه الفئة من التطبيقات اصبح اليوم لدينا العشرات من هذه التطبيقات التي تضم مئات الملايين من المشتركين حول العالم, مما ادى الى سحب البساط من تحت وسائل الاعلام والاتصال التقليدية كالتلفزيون والراديو, نتيجة سهولة الانتشار وتحقيق الشهرة من خلال هذه البرامج, اذ لا يتطلب الامر أي مؤهلات علمية او معارف وخبرات مكتسبة, فكلما تحتاجه للولوج الى عالم الشهرة هو ان يكون جهازك متصلا بشبكة الانترنت وتقوم بإنشاء حساب عبر هذه المواقع والتطبيقات ولا يتطلب التسجيل فيها أي رسوم ومبالغ مالية, وتبث بعد ذلك ما شئت من محتوى قد يطلع عليه الالاف وربما الملايين حول العالم.
ورغم ما لهذا التطور التقني الذي وصل اليه العقل البشري اليوم وما يحققه من فائدة في كثير من الجوانب الا ان ذلك لا ينفي وجود العديد من السلبيات التي خلفتها هذه التطبيقات, لعل ابرزها هو استغلال البعض من صناع المحتوى (التافه) الذين باتو يحصدون عشرات الملايين من المشاهدات على ما يبثوه من فيديوهات لا تحقق أية فائدة للمجتمع بل على العكس من ذلك, فقد اثرت في تراجع الوعي العام لدى المتلقين لهذه المقاطع سيما وان اكثر متابعي هذه الفئات هم من المراهقين والاطفال, اذ يستغل صناع المحتوى ضعف الرقابة المفروضة على شبكة الانترنت وصعوبة تقييد جميع التصرفات والافعال التي يتم بثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وما يستدعيه ذلك الامر من تضييق للحريات العامة والخاصة للافراد والذي قد يصطدم اذا ما تحقق مع الحقوق الممنوحة للفرد التي تقرها وتحميها الدساتير والقوانين في الدول الديمقراطية الحديثة.
ونتيجة الشهرة التي حققها هؤلاء الذين يصطلح عليهم (البلوگرز) عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت سمة عصرنا الحالي ولا يمكن الاستغناء عنها من جميع فئات المجتمع, جعل ذلك من هؤلاء محط انظار الشركات التجارية واصحاب المشاريع المختلفة لغرض الترويج لمنتجاتهم وخدماتهم التجارية عبر حساباتهم الشخصية, وكلما كان عدد متابعي هؤلاء (البلوكرات) اكثر كلما ازداد معه ثمن الاعلان الذين يروجونه عبر صفحاتهم الشخصية.
ان هذا الانتشار السريع للشخصيات المشهورة ذات المحتوى السلبي (التافه) بين اوساط المجتمع وتقدمهم بصفتهم مشاهير بمسميات مختلفة على النخب الاكاديمية والطبقات الاجتماعية والثقافية المرموقة من ابناء المجتمع رغم عدم امتلاكهم لاي مقومات معرفية او فكرية او اية مواهب فنية تؤهلهم للعب هذا الدور وتصدر المشهد الاعلامي, اصبح مصدر قلق للعديد من الاباء واولياء الامور بسبب تأثير ذلك على ابناءهم من المراهقين والاطفال في جوانب عديدة من حياتهم سواء من ناحية تقليدهم لهؤلاء المشاهير وما ينشرونه من تفاصيل حياتهم اليومية وما يعيشونه من رفاهية بسبب جني المال من خلال الشهرة, وهو ما جعلهم قدوة غير حسنة للعديد من المراهقين والشباب الذين يبحثون عن الكسب السريع للمال وتحقيق الشهرة السريعة.
ويلاحظ بان العديد من مشاهير التواصل الاجتماعي الحاليين يعيشون خارج بلدانهم الام, مثل تركيا ودبي ودول اوروبا وامريكا, ويقومون بتصدير ثقافات وقيم غير مألوفة للمجتمع الاسلامي الذي يعيش فيه معظم افراد الفئة المتلقية لهذا المحتوى, وما في ذلك من خطورة على المجتمعات العربية المحافظة ومنظومة القيم والعادات الاجتماعية والموروث الديني والاخلاقي السائد, فمن الصعوبة السيطرة بشكل كامل على ما يمكن ان يشاهده الاطفال والمراهقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي نظرا لكون جزء كبير من يومهم يقضونه امام شاشات الهواتف, اذ يلاحظ تشجيع هؤلاء على العلاقات المحرمة وانكار الاديان والتشكيك بالمعتقدات الدينية الثابتة.
كما شاهدنا في الآونة الاخيرة استغلال بعض ضعاف النفوس للنساء للمتاجرة بأجسادهن للحصول على نسب اعلى من المشاهدات من قبل المراهقين والشباب سعيا للحصول على الشهرة والمال, وتختلف مراحل التأثير تبعا للفئة المتلقية ومستواها الفكري والاجتماعي, فضلا عن دور الرقابة الابوية التي تمارس على المتلقين لهذا المحتوى, اذ تبدأ المرحلة الاولى بالمشاهدة ومن ثم الاستمرار والمواضبة على متابعة كل جديد لصاحب المحتوى ومحاولة تقليد جميع تصرفاته وطريقة كلامه, وصولا الى مرحلة الهوس الشديد بتقليدهم وتقمص تفاصيل حياتهم بشكل كامل.
من أبرز مظاهر خطورة فئة المشاهير وصناع المحتوى هو ما يسمى بـ (الفاشنستا) وهي فئة من النساء في الاعم الاغلب منهن يتاجرن بمظهرهن الخارجي لاستدراج الشباب والمراهقين وتحقيق أكبر عدد من المتابعين ومن ثم الحصول على المال والشهرة, ان خطورة هذه الفئة تكمن في افتقار هؤلاء لأبسط للمؤهلات العلمية الكافية للظهور الإعلامي, فالإعلام المرئي من اكثر وسائل الاتصال تأثيرا في الجمهور عبر التاريخ البشري.
ومع أن ظهور هذه الطائفة بالدرجة الأولى كان بقصد الإعلان التجاري عن السلع لكنهم وللأسف الشديد أصبحوا قدوات للآخرين، بل صار الواحد منهم يعلن ويظهر بذلك بمظهر المخالف لدين الله والمخالف للعادات والتقاليد وللمبادئ وللعفة والاحترام، ويعطي دروسا في بعض المسائل المهمة في الحياة الاجتماعية كالزواج والطلاق, ففي عالم المشاهير كل ما تحتاجه الفتاة لتدخل عالم الشهرة والمال بشكل سريع هو وجه جميل مع ارتداء ملابس مغرية, فقد حققت ظاهرة المشاهير والفاشنستا الشهرة لمن لا يملك أي إنجاز أو مهارة على الحقيقة والواقع، بل شهرة ناتجة عن تنازل عن قيم ومبادئ وعادات وتقاليد بل وأحكام دينية ثابتة.
واحدة من اهم التأثيرات السلبية التي انتجتها هذه الظاهرة هي تراجع دور العلم والعلماء عن كونهم مشهير وواجهات المجتمع, وهو ما ادى الى عزوف العديد من المراهقين والاطفال من المهووسين بهؤلاء المشاهير عن طريق العلم الطويل، والذي يحتاج إلى بذل مزيد من الدراسة والجهد والكتابة والأبحاث، وفي النهاية قد تصل او لا تصل، أما (الفاشنستا) فباتت تحقق من الدخل المالي والشهرة الإعلامية ما لا يحققه طالب العلم, وفي وقت قصير جدا، ولذلك تغير مفهوم النجاح لدى المتلقين لهذه الشخصيات من المراهقين والشباب, حتى اصبح معيار النجاح عندهم قائما على استبعاد الإنجاز والعلم وانحصاره في المال والشهرة, التي باتت سمة العصر نتيجة تغير المفاهيم الاجتماعية بسبب ما وصل اليه العشرات من ذوي المحتوى السلبي من شهرة وتأثير لا ينكره احد على مجتمعاتنا.