بقلم: فالح حسون الدراجي ..
في هذا اليوم الربيعي، يحتفل الشيوعيون العراقيون وأصدقاؤهم من عموم التقدميين والديمقراطيين في العالم بالذكرى التسعين لتأسيس هذا الحزب المجيد، حيث سترتفع اليوم رايات الشيوعية الحمر، وتصدح حناجر الشباب و (الشياب) بالأغنيات العذبة، ويتبادل المحبون باقات الورد، وبطاقات التهنئة.. ومثل غيري سأحتفل أنا أيضاً مع الجموع المحتفلة مرةً، ومع نفسي مرةً ثانية، الأولى لبلوغ قطار حزب الكادحين محطة التسعين رغماً عن انوف الطغاة والقتلة والفاشيست،
والثانية، لمرور خمسين عاماً على نيلي شرف العضوية في الحزب الشيوعي العراقي، حيث تصادف هذا الأيام ذكرى تسلمي بطاقة الأعضاء من مسؤولي الحزبي، المناضل حيدر الشيخ علي عام 1974، بعد اشتغالي فترة في اتحاد الشبيبة الديمقراطي، وتدرجي في صفوف الحزب من صديق إلى مرشح إلى عضو يتمتع بكامل العضوية..
لكنّ فرحي اليوم تظلله للأسف سحابة حزن داكنة، بسبب غياب الكثير من الاحبة المناضلين عن هذه المناسبة الغالية، لاسيما اولئك الذين استشهدوا دفاعاً عن قيم ومبادئ الحزب، أو الذين رحلوا عنا دون كلمة وداع.
ولن يخفف من حزني المتأتي من غياب تلك الوجوه المضيئة بشعاع النضال، وتلك الأسماء التي أحببتها، وأعجبت بنضالها وبطولاتها، وألق مواقفها، ورافقت بعضها بل وعشت مع بعضها أيضاً.. أقول لن يخفف من أسى ذلك الحزن سوى يقيني بأنهم مضوا إلى أبديتهم بكامل روعتهم وطهرهم، ومبادئهم، ونصاعة مواقفهم. ويكفيني فخراً أن يكون بينهم شقيقي البطل خيون حسون الدراجي، و(خال بناتي) البطل خالد حمادي، وبقية الشهداء الأبطال أمثال صديقنا غايب حوشي وصديق عائلتي القاص حميد ناصر الجيلاوي، والنجم الكروي الصديق بشار رشيد، والشاعر الصديق كاظم الحميري، و(عديلي) الشاعر الشهيد ذياب گزار (أبو سرحان)، وكذلك (نسيبي) المناضل الراحل حيدر الشيخ علي..وإبن عمي النصير الشيوعي سامي حسين الدراجي ( أبو سومر)، فضلاً عن عدد من الأحبة الذين كنا نحتفل معهم كثيراً في هذه المناسبة العزيزة، لكنهم رحلوا للأسف، وظل مكانهم شاغراً رغم حضورهم الدائم والبهي في قلوبنا..ومن بين هؤلاء يأتي صديق عمري الشاعر الجميل كريم العراقي، والشاعر الفذ كاظم إسماعيل الگاطع، والشاعر النبيل جمعة الحلفي، والكاتب الخالد شمران الياسري (أبو گاطع)، والشاعر المناضل ألفريد سمعان، والمناضل إسماعيل البهادلي أبو علي الذي كنا نراه بقامته الباسقة وأناقته الجنوبية يتصدر المشهد الاحتفالي معايداً الحضور جميعاً بمولد الحزب، كما أتذكر اليوم المناضل جمعة حطاب (أبو احسان) – الشخص الذي قادني من يدي إلى طريق النور- وكذلك ابن عمي المعلم الشيوعي غازي الدراجي ابن البصرة الذي زرع في قلبي لأول مرة أسماءً عظيمة ستزهر في حياتي بقادم الأيام، حقولاً من الورد والحب والجمال، مثل القادة فهد وحازم وصارم وسلام عادل وجمال الحيدري، ومثل أبو العيس وحسن السريع وستار خضير وغيرهم… أما الفنان فؤاد سالم، فسيظل الاسم الذي أفتقده اليوم ربما أكثر من غيره، فهذا الكائن الجميل الذي رحل مع بقية الأحبة الذين رحلوا وتركوا في القلب جرحاً لن يندمل أبداً، يستحقون منا الذكر والتحية في عيد ميلاد حزبهم، الذي ضحوا بالغالي والنفيس من أجل رفعته وسموه.. لقد كان بودي اليوم أن اكتب عن هذه الشموس دون استثناء، لكن مساحة المقال لن تسع لبريقهم الساطع، وتاريخهم الخالد الذي أتشرف بمعرفته.. وعهداً، اني سأنجز يوماً ما كتاباً يحكي حياة وبطولات وإبداعات هذا الجمع الباهر من المناضلين الشيوعيين، الذين ظلوا أوفياء لحزبهم وفكرهم حتى وإن غادر بعضهم صفوفه التنظيمية.
ومع ذلك، سأستغل اليوم وهج هذه المناسبة لأكتب على ضوئه بعض مواقف الفنان (الشيوعي) الكبير فؤاد سالم، كما عرفتها وعرفته شخصياً عبر علاقة متشعبة فنياً واجتماعياً وفكرياً، امتدت لأربعة عقود.. علاقة كانت واسعة ونبيلة وإن كانت متقطعة بسبب الظروف المتقلبة.
وهنا قد يسألني سائل: لماذا فؤاد سالم دون غيره من الشيوعيين؟!
والجواب: لأن فؤاد سالم عانى، وقاسى ما لم يعانه ويقاسه غيره، إذ لم اجد أحداً – من غير الشهداء – قد دفع ثمناً غالياً من اجل مبادئه وشرف انتمائه مثل فؤاد سالم، لذلك اخترته بطلاً لمقالتي في مثل هذا اليوم التاريخي والمميز.
وإذا كان الفنانون الشيوعيون دفعوا أثماناً باهظة بسبب مواقفهم المناهضة للدكتاتورية، إلا أن الثمن الذي دفعه فؤاد كبير جداً ومختلف جداً.. لقد عرفت فؤاد سالم جيداً، وتعمقت علاقتنا منذ لقائي الاول به، والذي تم بفضل الشاعر الراحل كريم العراقي عام 1973، عندما ذهبنا سوياً لزيارة فؤاد في شقته القريبة من قاعة الخلد .. وقد فوجئت بتلك الحفاوة التي أبداها الرجل في استقبالنا خاصة وأننا لم نزل في أول طريق الشعر، حتى أني ظننت وقتها أن أغنية (عمي عمي يا أبو مركب)، التي كتبها كريم العراقي، ولحنها الفنان طالب غالي وأداها فؤاد سالم بشكل رائع، هي السبب في كل هذه الروعة والحرارة في الاستقبال، لكني اسقطت هذا السبب لاحقاً حين اكتشفت طيبة ونقاء وكرم وأريحية فؤاد سالم.. واذكر أننا تناولنا الغداء مع فؤاد سالم في شقته، بمشاركة زوجته الفنانة مي جمال، وامها منيرة جمال، و (بحضور) طفلته (نغم) التي كانت بعمر سنتين أو ربما أكثر بقليل.
وأذكر أن حديثاً متشعباً دار بيننا عن الشعر والغناء والبصرة و(الاشتراكية).. وأذكر أيضاً أني أبديت له إعجابي بأغنية (يا ابو بلم عشاري)، وكيف أني أطلب من صديقي فاضل عبود أن يغنيها لنا كل جلسة.. وحين أخبرته بذلك، فرح فؤاد فرحاً طفولياً، حتى أنه سألني أكثر من مرة إن كان صديقي يجيد اداءها. بعد ذلك اللقاء تواصلنا عشرات المرات، فكنا نزوره أنا وكريم احياناً، واحياناً نلتقيه في بعض الحفلات والمناسبات الوطنية، كحفلة الذكرى الأربعين لميلاد الحزب الشيوعي التي اقيمت في جزيرة أم الخنازير-جزيرة الأعراس- وفي تلك الأيام كتبت له أغنية (طبقية) بعنوان يا فقراء يا أحباب.. وطبعاً لم يستطع فؤاد تسجيلها في العراق آنذاك لكنه قدمها مرات عديدة في عدن حينما أقام هناك فترة من الزمن. كما أود أن أذكر هنا ان فؤاد سالم قد تعرض قبل مغادرته العراق إلى المضايقات والملاحقات والاعتقال والفصل الوظيفي، بل وحتى الضرب أحياناً، ناهيك من التهميش والحصار الفني الذي فرضته عليه سطات البعث بمجرد أن أعلن عن موقفه السياسي بعد تأسيس الجبهة الوطنية.. فكان وضعه المعيشي بائساً نتيجة لذلك – رغم نجوميته الكبيرة وشهرته الواسعة.. وأذكر موقفاً لن أنساه أبداً، يوم زارني فؤاد في بيتنا بمدينة الثورة قطاع 43، بسيارته (الاسكودة) القديمة، وقد التقى بوالدي ووالدتي وشقيقي (أبو سلام)، ثم خرجت معه بسيارته تلك، لكن فجأة- وبينما كنا على جسر القناة- سقط باب السيارة من جهة اليمين، وطبعاً فإن فؤاد لم يستطع التوقف فوق الجسر، فكان عليّ أن أرجع إلى مسافة طويلة وأعود حاملاً الباب، وسط تعليقات السواق وضجيج (الهورنات المشاكسة) ..!
لقد ظلت علاقتي مع فؤاد متواصلة لم تنقطع حتى مغادرته العراق، ولقائي به في امريكا بعد عشرين عاماً، حين طرق باب بيتي في مساء اليوم الثاني لوصولي مدينة ديترويت الأمريكية قبل ربع قرن، وحين فتحت الباب وجدت أمامي فؤاد سالم ومعه الشاعر خليل الحسناوي، فكان اللقاء بفؤاد خليطاً من الدموع والفرح والمشاعر الوجدانية التي لا توصف.. وهكذا عدنا أنا وفؤاد ثانية، وعادت تلك العلاقة القديمة، وصرنا نلتقي كل يوم بصحبة صديقنا خليل الحسناوي وبعض الأحبة..
وهنا أود أن أقول إن أهمّ الأثمان التي دفعها فؤاد سالم – وسمعتها منه شخصياً – كانت بفقدانه أسرته يوم واجهته زوجته (أم نغم) بطلب غريب قبل سفره، قائلة له : أنا لا أستطيع العيش معك بهذه الطريقة، لذا أريدك أن تختار بيني وبين الحزب الشيوعي.. ثم أعادت عليه الطلب في اليوم الثاني : أنا أم الحزب الشيوعي؟!
فأجابها فؤاد بشكل قاطع: طبعاً الحزب الشيوعي !!
وهكذا غادر فؤاد بيته – ويقال إن طلب زوجته جاء بضغط من الامن العامة- والمصيبة أن فؤاد لم يغادر بيته فحسب، إنما غادر بعدها وطنه برمته، متوجهاً نحو الكويت، واضعاً خطوته الأولى في طريق الغربة والألم، لتتعدد بعدها خطوات غربته في دروب عديدة، ودول عربية واجنبية شتى. وفي أمريكا بدأت رحلة التعاون الفني بيننا وكانت تحديداً في عام 2000 حين كتبت له أغنية عن الفتى الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، ولم يكن معنا الوقت أو الإمكانيات لتسجيلها آنذاك، فاتصل فؤاد بإذاعة صوت كربلاء التي كانت تبث من ولاية مشيغان، وطلب بث اغنية (الدرة) مباشرة وعبر التلفون، فوافقوا حالاً .. وهكذا أوصل فؤاد صوته، والدموع تغرق عينيه تأثراً بحادث استشهاد ذلك الطفل الفلسطيني.. وكم أتمنى لو أن الاخوة الأعزاء في اذاعة كربلاء يحتفظون بتلك المكالمة وبذلك التسجيل لهذه الاغنية، فهو وثيقة تاريخية مهمة عن أغنية كتبت ولحنت وقدمت وبثت بساعة واحدة فقط !.
بعد أغنية (الدرة) بفترة قصيرة، كتبت لشهداء الحزب الشيوعي العراقي عشر اغنيات لحنها وغناها فؤاد بنفسه، وقد أنتجها ونشرها مشكوراً، الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة، وهذه الاغاني تصدح اليوم في مواقع وصفحات الحزب الشيوعي، وفي اليوتوب، وأيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي .. أما الأغنيات فهي: “صادق فهدنا، وسلام الحب على احلى الأسامي، ويا جمال الغالي عذبنا الفراق، ومحمد الخضري، وجورج تلو، ويا نساء العالم تجمعن سوه، والمطر لو طاح يسأل وين أبو گاطع، وفكرت جاويد، وصليوه، واغنية هندال” ..
لقد تحدثت كثيراً عن فؤاد سالم، لكني لم أتحدث عن معاناة هذا الرجل في غربته ومحنته، إذ لم تكتف السلطات البعثية في العراق بمنع بث أغانيه في الاذاعة والتلفزيون، ومنع بيع وتداول اشرطته الغنائية في محلات التسجيل في العراق، وبثها الاشاعات والدعايات التسقيطية ضده، إنما قامت بتوجيه عملائها في امريكا بقيادة المليونير البعثي ورجل كابونات النفط شاكر الخفاجي، بمحاصرة فؤاد سالم حصاراً فنياً ومهنياً، بحيث كانت تقام في مشيغان حفلات كبيرة لمطربين (نص ردن) بينما كان النجم الكبير فؤاد سالم مركوناً، وعاطلاً لا يستدعى حتى في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية، ولولا مواقف الاتحاد الديمقراطي العراقي الكريمة، ودعم بعض الشخصيات الديمقراطية في أمريكا لما تمكن فؤاد من تدبير أمر معيشته، ومعيشة عائلته في سوريا (زوجته ام حسن وأولاده).
فمن يصدق مثلاً أن فناناً باهراً ونجماً ساطعاً مثل فؤاد سالم كان لا يملك سكناً خاصاً به، لذلك كان يقيم أحياناً لدى بعض الأصدقاء و(الصديقات) في امريكا.. بل أنه اشتغل في مهن لاتتفق ومؤهلاته الفنية العظيمة، فمثلاً عمل – وهو النجم الكبير – سائق تاكسي على خط بوابات مطار ديترويت، ولعلكم تعرفون أن من مهمات سائق التاكسي في امريكا أن ينقل الحقائب بيديه من والى السيارة، وفي احدى المرات، حين كانت الأرض مغطاة بالثلج انزلقت قدم فؤاد، وسقط على الأرض، فسقطت الحقيبة بكل ثقلها فوق ساقه، وكسرت رجله، وبقيت في (التجبير) أكثر من شهرين..
لقد حدث كل هذا مع فنان كبير بحجم فؤاد سالم، بينما كان (اقرانه) (يلعبون بالملايين لعب) ! علماً بأن فؤاد سالم كان قادراً على تغيير شكل حياته لو تخلى عن قضيته ومبدئه، أو توقف عن نقد صدام حسين والغناء ضد نظامه في جميع الحفلات حتى لو كانت حفلات عامة، فيعيش برخاء مثل زملائه الفنانين الآخرين، لكن هيهات أن يفعلها أبو نغم، فقد رفض كل ذلك بقوة.. وأعتقد أن الوسط الفني يعرف شجاعة فؤاد سالم، ومعارضته القوية لصدام، فهو لم يخف يوماً رغم أن الرجل كان مهدداً بالتصفية بل وكان مشروع استشهاد في أية لحظة وأية بقعة في العالم ..!
إذاً، كان هذا بعضاً من الثمن الباهظ الذي دفعه فؤاد سالم حفاظاً على قضيته الوطنية، و مبادئه الشيوعية السامية.
لذا ارجو من المحتفلين جميعاً أن يتذكروا اليوم الفنان الشيوعي المضحي والملتزم فؤاد سالم ..
ختاماً أذكر الأغنية التي كتبتها له في أوبريت الشمس تشرق من هناك، الذي شاركته فيه الفنانة غزوة الخالدي وحشد من الفنانين العراقيين والعرب في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الأغنية – الحلم – التي خاطبت فيها العراقيين المنفيين والمهجرين والمهاجرين كرهاً، حيث قلت في مطلعها:
باچر يرحل الظلم يحبابنا وترجعون ..
وباچر تنزل الشمس وتغني لليحبون ..
سمانه تلبس ألوان ..
وبلدنا يغدي بستان .. وبفيه تستراحون ..
وبظله تستراحون .
تحية لفؤاد سالم في يوم ميلاد حزبه الجميل ..