بقلم: فالح حسون الدراجي ..
تساءلتُ في مقالة نشرتها قبل سنوات، عن الفنان الكبير (سلمان المنكوب)، وهل كان شيوعياً أم مجرد فنان مشاكس للنظام البعثي، وقد تلقيت وقتها أجوبة مختلفة عن هذا السؤال الملتبس..
ولأن (المنكوب) فنان فذ وأعجوبة من أعاجيب الغناء العراقي الباهر، نال لقب (زوربا العراق) بجدارة، إضافة إلى أنه قامة وطنية عراقية باسقة تستحق الذكر والتذكير دائماً، فضلاً عن المادة المغرية التي توفرها شخصيته المزدحمة بالأحداث والوقائع المثيرة، والمواقف الجسورة، ليس للباحث والكاتب فحسب، بل وتوفرها للمتلقي العادي أيضاً. فهو الرجل المتربع على تاريخ فني وسياسي مثير، وعلى سيرة غرائبية لم تتكرر مع فنان غيره قطعاً. ولهذا عدت مرةً ثانية للموضوع السابق ذاته، ولكن هذه المرة سأكون المجيب وليس السائل : والسؤال: هل كان (المنكوب) شيوعياً ؟!
- نعم، كان المنكوب شيوعياً .. ولكن على طريقته الخاصة، بل الخاصة جداً .
وما هي دلائلك وبراهينك على ذلك يا فالح ؟!
للإجابة على هذا السؤال – الصعب- سأستعين بالإشارة أولاً الى ما مدون عن لسان المنكوب شخصياً، لاسيما حديثه لجريدة الصباح العراقية، وما منقول ومتداول وشائع عنه، أما الأهم في أدلتي، فهو الذي تحتفظ به ذاكرتي، وعشته بنفسي.. إذ كثيراً ما كنت أراه يزورنا في البيت، فهو الشخص المحترم جداً، ذو القيم والمثل والأخلاق والمبادئ وعزة النفس، مما يجعله معززاً، مكرماً، ومرحباً به في كل بيت عراقي شريف ..
وهنا يجدر بي العودة إلى نهاية ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، والغوص في تفاصيل تلك العلاقة والصداقة التي ربطت بين شقيقي الشهيد الشيوعي خيون الدراجي (أبو سلام) وبين الفنان سلمان (المنكوب)، رغم فارق السن الذي كان بينهما، لكنّ المشتركات التي جمعت بين أخي و (أبي داود) كانت كبيرة، وأقوى من فارق السن..!
ومن بين المشتركات تلك، أن أخي والمنكوب رجلان
شجاعان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولهما تاريخ ومواقف واحداث رجولية يتحدث بها الناس حتى يومنا، ولأنهما يعرفان غدر البعثيين، فقد كان (المنكوب) وخيون، لا يخطوان خطوة واحدة دون أن يحملا سلاحيهما تحت ثيابهما، بل كان شقيقي يحمل مسدسين وليس مسدساً واحداً ..
ومن المشتركات المهمة التي جمعت بينهما، أن المنكوب وشقيقي خيون كانا من أبناء ناحية كميت بمحافظة ميسان – ولادةً، وأصلاً وانتماءً – ثم سكنا بعدها في منطقة الصرائف ببغداد، وبعد ذلك انتقلا مع عائلتيهما الى مدينة الثورة الطيبة.. ومن المهم ذكره هنا، ان المنكوب يشترك مع شقيقي خيون بالكرم، فقد كانا كريمين جداً، بل هما أكرم ما رأيت في حياتي.. ومن مشتركاتهما القوية أيضاً: وطنيتهما العالية المتمثلة بعشقهما للعراق ولكل ما يدل على اسم العراق، ناهيك من كرههما الشديد لحزب البعث (العفلقي) وحبهما للزعيم عبد الكريم قاسم.
وثمة ميزة مشتركة أخرى بين شقيقي الشهيد خيون حسون الدراجي والراحل سلمان المنكوب، وهي أن كليهما يحب الحياة والفن والسهر والجمال والبهجة والمسرات.. لذلك كانا – ومعهما صديق ثالث -يملك سيارة تكسي- لم أعد أتذكر اسمه الآن – يخصصون يوماً أو يومين في كل شهر، تحت عنوان – أيام الحرية الحمراء-، فكانوا يملؤون السيارة بالطعام والشراب، ويستأجرون خيمة كبيرة، ويمضون إلى البر في (جزيرة الكوت)، مستصحبين معهم (العود والطبلة) وما تحتاجه (الحرية الحمراء) من مستلزمات، فيقضون وقتاً رائعاً في الهواء الطلق، محققين متعة استجمامية بريئة مع الغناء والشراب، وصيد الطيور، يزيحون فيها حتماً ضغوط الحياة وهموم الدنيا الثقيلة.. ثم يعودون- ثلاثتهم – إلى بيوتهم في مدينة الثورة .. وهنا أتذكر موقفاً مرَّ عليه أكثر من خمسين عاماً، رأيت فيه المنكوب يعطي لشقيقي خيون ديناراً – وكان الدينار وقتها مبلغاً فخماً – وسمعته يقول له آنذاك : – خويه أبو سلام .. حزبكم هذا نهيبة ..!! فضحك خيون وقال له : لا وعيونك أبو داود، حزبنه أفقر حزب بالدنيا.. بس انت الوحيد اللي تدفع دينار براسه .. والبقية كلها تدفع دراهم، لو فلسان .. وفي اليوم الثاني، حاولت أن (أقع على العِلَّة) كما يقولون، فسألت شقيقي وقلت له : ( بشرني، صار المنكوب عضو بالحزب، لو بعده مرشح) ؟!فضحك أبو سلام، وقال : مجنون من يرفع طلباً لضم المنكوب للحزب.. والأكثر جنوناً من يوافق على قبوله .. !!
قلت له : (لعد هذا الدينار شنو) ؟ قال : هذا تبرع منه الى الحزب الشيوعي، فقد كنت أستلم منه نصف دينار كل شهر، لكنه رفع من قيمة التبرع في الشهر الماضي وجعله (دينار كامل).. قلت له : ( زين إذا هو هيچي يحب الحزب، ويدفع له تبرعات أكثر من مجموع اشتراك خلية تنظيمية، شنو المانع من أن ينتمي للحزب) ؟!
فقال أبو سلام : المنكوب شخصية عجيبة وغريبة.
تصلح لكل شيء إلا للتنظيم الحزبي، فهذا الأمر صعب جداً، على الرغم من انه يحترم نضال الحزب الشيوعي، ويعشق مبادئه، ويحمل بقلبه حباً خاصاً للشهيد سلام عادل. والرجل يمتلك شخصياً وسياسياً وأخلاقياً، كل مقومات الشخصية الشيوعية المطلوبة، لكنه عصبي وحاد المزاج، وعلى طول (مسدسه بحزامه)، وليس غريباً أن تراه في أحد الإجتماعات يسحب مسدسه على مسؤوله الحزبي، إذا ما طلب منه المسؤول انتقاد نفسه وإحراجه أمام الرفاق !! ..
ناهيك من أن الرجل لا يحب التقيد، والإلتزام، الضبط والربط، لا سيما في موضوع الإجتماعات الحزبية، ودقة مواعيدها.. فهو يحب ان يعيش حراً مثل عصفور طليق بدون قيود والتزامات، فضلاً عن إرث التراكمات العائلية والدينية والعشائرية المتجذر في أعماق نفسه.
قلت له ضاحكاً : وبماذا يعلق المنكوب عندما يعطيك (التبرع) كل شهر، وأنا أعرف أن الرجل يعلق و(ينكت) على نفسه أحياناً إن لم يجد أحداً يعلق عليه ؟ فقال ضاحكاً : في كل مرة يقول شيئاً مختلفاً عن المرة السابقة، ولكنها جميعاً لاتخلو من الدعابة واللطف، فتارة يقول لي : (هاك خويه أبوسلام، هذا الدينار مالي، وعساها برگبة ليلين – كان يلفظ كلمة لينين – ليلين – بقصدية طبعا )..
وتارة يقول لي ضاحكاً : (ولكُم هذا الوَدي مال أبو غلام ما يخلّص – والوَدي هو حصَّة الرجل التي يدفعها في العشيرة عند الفصل العشائري، أما غلام فهو اسم والده -. لكن الحق – والكلام لم يزل لأخي خيون -كان أبو داود مُحباً جداً للحزب الشيوعي، إذ دائماً ما كان يصفه بحزب الرجال الشجعان)،
لذا، وبناءً على ماتختزنه ذاكرتي الشخصية من مواقف وطنية ويسارية عن المنكوب، وما كان معروفاً عنه من كره وعداء لسلطة البعث، ورفضه الغناء لانقلاب البعثيين في 17 تموز رفضاً قاطعاً، متحملاً بذلك العديد من الاعتقالات والمضايقات والتهميش، فضلاً عن حبه الشخصي للشهيد سلام عادل، كل هذا يدفعني بل ويدفع أي متابع، للذهاب إلى توصيف الفنان الكبير سلمان المنكوب بـ(الشيوعي)، مع إضافة عبارة – على طريقته الخاصة جداً -..!