بقلم: فالح حسون الدراجي ..
كنت قد دخلت بيت المناضل الشيوعي والكاتب المتفرد شمران الياسري أول مرة عام 1972، أي قبل أن التقيه وأعرفه شخصياً .. فقد كان ولده الرفيق العزيز فائز (أبو ياسر) صديقاً عزيزاً، بل قريباً جداً إلى قلبي، كيف لا وفيه الكثير من الحب للناس الفقراء، والكثير من الوطنية والشهامة والغيرة والذكاء والعذوبة وملوحة (الفلاح العراقي)، رغم مدنيته وثقافته الحديثة والعالية.. وبصراحة فقد كان في فائز – الذي توفي قبل ثلاث سنوات- الكثير الكثير من ملامح ولوذعية وذكاء وسخرية أبيه ..
ولأني وفائز صديقان جداً، وفي عمر شبابي واحد تماماً، فقد كان من الطبيعي أن يزورني في بيتنا بمدينة الثورة قطاع 43، وأزوره في بيتهم الكائن بمنطقة (الأمين) في بغداد، بل كنت ضيفاً شبه دائم عليهم، وهناك التقيت ( العم أبو جبران) المعروف شعبياً باسم (أبو گاطع) أول مرة، فضلاً عن لقائي بابنائه رياض الذي كان يكبرني ويكبر فائز بعامين، وأحمد الذي يصغرنا بسنة، وإحسان الذي كان يصغرنا بخمس سنوات، ونلتقي أيضاً بحشد من أبناء عمومة وخؤولة فائز، ومن بينهم الشقيقان رشيد الذي سيصبح بعد سقوط نظام صدام نائباً في البرلمان- وحميد الذي يقيم في سلوفاكيا منذ خمسة واربعين عاماً واللذين سيصبحان أقرب أحبائي وأصدقائي مستقبلاً..لذلك لم يكن مفاجئاً لي اللقاء بـ (أبو گاطع) في جريدة طريق الشعب عندما دخلتها لاول مرة بصفة – صحفي متدرب متطوع -.
إذن، كان بيت شمران الياسري بمثابة بيتي الذي أتردد عليه باستمرار، وكان أبناء شمران أخوةً وأحبة لي .. لاسيما إحسان (ابو زينب) الذي أصبح بعد سقوط النظام، وبفضل خبراته وامكاناته العلمية والمصرفية العالية في منصب نائب محافظ البنك المركزي العراقي، ولو لم يكن منصب محافظ البنك المركزي في العراق سياسياً، لوجدنا أبا زينب في هذا الموقع الرفيع، بكل استحقاق وجدارة، وهذا الكلام لا يُنقص من أهليُة أو رصيد السادة الذين شغلوا منصب محافظ البنك المركزي بعد سقوط النظام، إنما هي كلمة نقولها للأمانة والإنصاف بحق احسان شمران فحسب.
ورغم مرور خمسة عقود على تلك الجلسات التي كنا نعقدها نحن الشباب في بيت العم شمران الياسري، إلا أن مذاقها الشهد لم يبارح لساني، وصورها الباهرة لم تزل تلمع في ذاكرة قلبي، لاسيما حين يكون أبو گاطع حاضراً بالصدفة، باعتبار أن الرجل كان مشغولاً جداً خاصة بعد أن عمل مديراً لتحرير مجلة الثقافة الجديدة.. لقد كانت جلساتنا في سبعينيات القرن الماضي في بيت شمران دروساً في الثقافة والمحبة والاحترام والوفاء والوطنية والحرية أيضاً، وكان المعلم أبو جبران – أو أبو گاطع – كما أحب أن أسميه هو الذي زرع كل هذه الخصال التهذيبية الراقية في هذا البيت، فضلاً عن البيئة التاريخية والاجتماعية لأسرة شمران يوسف الياسري- ابن عم السيد مالك، والكثير من السادة الأجلاء المهابين والمعروفين في جنوب الحي ودجيلة الكوت ونواحي الموفقية والعگيل وغيرها ..
نعم، لم تفارق مخيلتي قط صورة ذلك البيت الجليل، ولا ضحكات فائز، وصمت رياض الدائم، ولا (الصواني) التي يأتي بها أحمد وإحسان مملوءة وتعود فارغة تماماً، كما لم تفارق ذاكرتي رائحة التبغ الخاص التي يبثها ابو گاطع عبر غليونه في أجواء (الديوانية )..
ولأنها ذكريات حية ظلت ترافقني في غربتي، فقد كنت سعيداً جداً حين دعاني إحسان قبل أيام إلى مأدبة غداء خاصة تقام في بيته -بيت شمران الياسري – على شرفي مع باقة من أغلى الأحبة والأصدقاء .. ولم اسأل أو أشترط، إنما سألته سؤالاً واحداً : هل ستكون المأدبة في ذات البيت القديم ؟
ضحك أبو زينب، ثم أطلق حسرة وقال: راح ذاك البيت عمي، لكن لا تحزن، فقد جعلت من البيت الجديد صورة طبق الأصل وطبق العطر والحب والجمال من بيتنا القديم .. وثق يافالح – والكلام لسيد احسان- ستجد ظل شمران ولونه ورائحة تبغه وتسمع ضحكاته وضحكات فائز في كل زاوية من زوايا البيت الذي ستشرفنا بزيارته واللقاء بأهلك ومحبيك من أبناء أسرتنا ومن الأصدقاء الآخرين ..
ولم -يُكذّب أبو زينب خبراً – فقد وجدت صدى تلك الأيام وصور ذلك الزمان الجميل وحميميته الخالدة في كل أرجاء بيت أبي زينب، بل وفي وجوه كل الأحبة من الضيوف الذين حضروا بكل بهائهم وروعتهم وأريحيتهم وجمال نفوسهم، وغزارة معلوماتهم، وسماحة أخلاقهم، وكم فرحت حين وجدت بعض الأصدقاء الغالين الذين لم التقهم منذ سنوات بعيدة مثل صديقي العزيز لطيف طرفة محافظ الكوت الأسبق، وصديقي الإعلامي القدير خطاب عمر، والزميل والصديق الشاعر والباحث التراثي المقتدر ماجد السفاح، والزميل العزيز صباح زنگنة .. كما حضر هذه الدعوة والمأدبة وكما يظهر في الصورة المنشورة أسفل المقال، كل من الأحبة الأجلاء بدءاً من الواقفين من يمين الناظر إلى الصورة : المحامي احمد رشيد الياسري، حفيد شمران الياسري لابنته الصغرى، والاستاذ ثامر الكرم الخبير في وزارة النفط وهو ابن الشاعر اياد الكرم، والاستاذ صباح زنكنه خبير واعلامي، والمهندس عبد الكريم، والاستاذ المغترب نصرت الناصر، والخبير المالي يوسف العاني، والخبير الزراعي جمهوري السالمي، والفنان الدكتور فلاح العتابي (الخطاط)، والاستاذ الدكتور معتز عناد غزوان نجل رئيس اتحاد الادباء الأسبق الدكتور عناد غزوان، وحسن الياسري الطالب في الحوزة العلمية، وهو احد أصدقاء الأسرة الياسرية .. أما الجالسون من يمين الناظر فهم: الاستاذ لطيف الطرفة، ثم كاتب المقال ثم(المعزّب)
احسان شمران الياسري نائب محافظ البنك المركزي العراقي الاسبق..
وفي الختام أقول بضرس قاطع: إن جلستنا هذه جلسة من العمر بحق.. وإذا كانت بطوننا قد شبعت من لذيذ الطعام وكرم (السادة المعازيب)، فإن قلوبنا قد شبعت أكثر من لذيذ الكلام، وامتلأت نفوسنا من فيض حنين الذكريات.. وأروع ما فيها أن ( أبو گاطع ) كان معنا في هذه المأدبة الرائعة.