بقلم : هادي جلو مرعي ..
في واحدة من المدن التركية، وكان مؤتمرا يعقد هناك حضره مثقفون وصحفيون وأكاديميون من دول عدة، وكنت أرى البعض يستسيغ الخوض في تفاصيل مايعانيه بلده من مشاكل، ويشرح للحاضرين تلك المعاناة، وكأنهم يملكون الحلول، وينسى أنهم يبحثون عن مصالحهم الخاصة، ومنهم من يبحث عن حلول هو الآخر، وبينما يخوض الناس في جملة مواضيع وشؤون سياسية وإجتماعية إنبثق صوت من مكان قصي في القاعة يقدح برئيس إحدى الدول، وكان عدد لابأس به من المشاركين من أبناء تلك الدولة يعملون في مؤسسات عدة، ويختلفون بينهم في أمور وقضايا، وقد لايجتمعون سوية في مكان، ويخالطون مشاركين من جنسيات مختلفة، ولكن الغريب إنهم بمجرد أن سمعوا تلك الإساءة، وقد ظنوها إساءة إنطلقوا وكأنهم على إتفاق ليحولوا ذلك المسكين الذي تكلم الى مطلوب للعدالة، وبينما حاول المشاركون من بقية الدول ورئاسة المؤتمر الإعتذار لهم، وتطييب خواطرهم، وإقناعهم بأن ماحصل لايعدو أن يكون سقطة لسان، لكنهم طالبوا بالإعتذار، وعدم التكرار، وقد حصل لهم ماأرادوا بالفعل ليهدأوا.
ولقد عشت تجربة فريدة خلال رحلات سفر الى دول عدة حول العالم قريبة وقصية، وكنت أتحسر أن البعض ممن كانوا رفقتي يقدحون بكل شيء في العراق، ويتحدثون عن بلدهم، وعن المسؤولين فيه، وعن طوائف وقوميات وكأنهم في حرب، ويتوسلون مستمعيهم أن يتعاطفوا معهم، ويؤيدوا قولهم، ويجيشوا الجيوش، ويهجموا على العراق لكي يتحقق للمتحدث العراقي مافي نفسه من رغبة، أو إنزعاج، أو ضغينة، وقارنت بين مواطني تلك الدولة الدكتاتورية وطبيعة تفكير الناس فيها ومن لدينا وكأنهم يريدون أن يبعثوا برسالة لمواطنيهم في الداخل أن لايحولوا مشاكلهم الخاصة الى تسالي للخارج، ويفسحوا المجال للغرباء أن ينفذوا الى الداخل بحجج ومبررات ظاهرها خير، وباطنها شر لأن الخارج يخفي مصالحه الضيقة خلف ستار من الكذب والتدليس ليصل الى غاياته، فيتم حصار الدول، والتضييق عليها، ورجمها بالقرارات الأممية والعقوبات الإقتصادية والسياسية، فتنهار، ويكون الألم مضاعفا، وماكان مرهقا في السابق يكون أكثر إرهاقا في اللاحق، وأشد مضاضة.
تورط أحد السيناتورات، وأظنه مايك والتز عن الحزب الجمهوري الأمريكي، وأشار بعبارات قادحة إستهدفت السيد فائق زيدان رئيس السلطة القضائية العليا في العراق، والشيء المثير للإهتمام والإعجاب أن رد الفعل العراقي كان صادما على المستويين الشعبي والرسمي، ومن مؤسسات أكاديمية ونقابات وإتحادات وهيئات وتجمعات شعبية ورسمية وعشائرية، ومن ممثلي قوميات وطوائف وديانات وثقافات إستدعت تدخلا عاجلا من السفيرة الأمريكية في بغداد إلينا رومانسكي التي هرعت الى مجلس القضاء الأعلى لتعبر عن الإعتذار، وكأنها تبحث عن فرصة لوضع إسمها في قائمة التضامن مع القاضي الكبير، ورفض وإستهجان تصريحات السيناتور الذي تجاوز العرف والتقليد السياسي، ولو أنه هاجم مسؤولا تنفيذيا، أو زعامة سياسية لكان من الهين التعاطي مع تصريحاته تلك، ولكنه إستهدف القضاء، وهو السلطة التي يستنجد بها الجميع لحمايته، وصيانة حقوقه من تشريعيين وتنفيذيين ومواطنين عاديين وموظفين وبسطاء الناس ومن الفقراء والأغنياء، ولعلها فرصة جيدة ليتعرف من يهاجم القضاء، ويسيء لمؤسساته ورموزه إنه الحصن الحصين لحماية الشعب، والحصن المحصن في مواجهة من يريد هدمه وإقتحامه بكلمة، أو تعريض، أو تجريح..
إذن يمكن القول: إن مع حدث مع رئيس مجلس القضاء الأعلى الدكتور فائق زيدان هو إستفتاء شعبي نتج عنه التأكيد على إن القضاء هو السلطة الأولى في العراق، ولاسبيل لتقويضه والإساءة له لأن الجميع بحاجة إليه وهم يلوذون به على الدوام.