بقلم: كمال فتاح حيدر ..
كانت موانئ البصرة حتى عام 1969 موطنا وملاذا لكل الشركات والوكالات البحرية العالمية، وكانت لتلك الشركات نشاطات تجارية جعلت من موانئ العراق مرتكزا لسلاسل التوريد، ومحورا فاعلاً لخطوط الشحن البحري، فقد صادق مجلس قيادة الثورة في ذلك العام على قانون الوكالات البحرية رقم 46 لسنة 1969، فحصر الوكالات البحرية كلها بشركة حكومية واحدة، هي شركة النقل البحري، وألغى تراخيص الشركات الأجنبية والعربية والعراقية العاملة في هذا المضمار، والتي كانت وقتذاك في قمة نشاطاتها. وما ان دخل هذا القانون حيز التنفيذ بعد صدوره ببضعة أيام حتى انسحبت الشركات كلها من البصرة، وتوجهت صوب الموانئ الخليجية، حيث وجدت الاهتمام والترحيب والدعم المنشود، وكانت فرصة لا تخطر على بال العواصم الخليجية، التي انتهزت هذه الهفوة العراقية، واستغلتها في تطوير موانئها والارتباط مباشرة بالموانئ العالمية. .
مثال على ذلك شركة كري ماكانزي (Gray MacKanzie) التي تأسست في البصرة عام 1862 بمساهمة كل من: أرشيبالد غراي، وساندي دوز، وجون هوليداي، والسير جورج ماكنزي. وقد عرفت الشركة على مر السنين بأكثر من اسم، نذكر منها: (ماكلر)، و(غراي وشركاه)، و (غراي بول وشركاه)، و (شركة ميسابتاميا بيسيا)، و (شركة الفرات ودجلة للملاحة البخارية). وكانت شركة (كري ماكانزي) في طليعة الشركات التي قررت الرحيل إلى دبي. ثم تحسنت علاقتها وتطورت مع حكومة دبي منذ عام 1891، عندما تم تعيين شركة جراي ماكنزي وشركاه كوكلاء للشحن البحري، وكان لتلك العلاقة الأثر الكبير في تطوير موانئ دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال تقديم خدمات التجارة والشحن والتأمين والنقل، ثم عُهد إليها فيما بعد بمهمة تشغيل ميناء راشد، وميناء صقر في رأس الخيمة. .
وبالتالي فان قرار طرد الوكالات البحرية العالمية من البصرة عام 1969 كان القشة التي قصمت ظهر الموانئ العراقية. بينما اصبحت موانئ الإمارات قبلة لسفن الحاويات العملاقة. .
ثم جاءت وزارة النقل عام 2009 لتنسف شركات الخدمات البحرية التابعة للقطاع الخاص بأمر من الوزير الذي قرر منعها من دخول الموانئ، على الرغم من علمه أن شركة النقل البحري لا تمتلك (طبقا للقانون) أي صفة قانونية تؤهلها للسيطرة على شركات الوكالات البحرية الأخرى. او احتكار العمل في الموانئ العراقية. وذلك استنادا لقرار 51 الذي أطلق حرية التنافس بين شركات الوكالات البحرية، وربما استدرك رئيس الوزراء (نوري المالكي) هفوات وزارة النقل، فأصدر أمرا بتاريخ 30/12/2009 يسمح لشركات القطاع الخاص بمزاولة أعمالهم اعتمادا على قرار حرية التنافس، لكن الوزير رفض تطبيق القرار مجددا. ولم ينفذ قرار المحكمة، ولا القرار الصادر من مكتب رئيس الوزراء بتاريخ 22/3/2010 القاضي باعتماد قرار القضاء، ووصل به الغرور إلى احتجاز 8 بواخر تابعة لشركة بركة العاشور لمدة شهر في البحر. وعمد الى منع العمال من إتمام إنزال حمولة باخرتين كانتا في ميناء ام قصر. .
لا نريد الخوض في تفاصيل هذه التداعيات المربكة. فقد كان للقرارات الارتجالية التي تبنتها الحكومة الأثر السلبي الكبير في تهديم وتقزيم تطلعاتنا الوطنية. .
لقد تحولت شركة النقل البحري الآن إلى واجهة بيروقراطية تنحصر وظيفتها باستيفاء الأجور والعوائد من دون ان تكون طرفا فاعلا في تقديم التسهيلات، بينما ظل القطاع الخاص هو اللاعب الحقيقي لكنه غير ظاهر للعيان، وغير معترف به، ولا تتوفر له مستلزمات الدعم والإسناد. .
ولله في خلقه شؤون