بقلم: حسين الذكر ..
على طول الحقب الزمانية المتعاقبة في أوراق سجلاتي البالية ، ظلت مجاميع الأغربة تضرب ستاراً سماوياً أسودَ يجوب بآلاف النماذج المتشابهة ، باعثٌ الجمالَ تارة والحزن تارة أخرى .
كان الانقياد التام لأوامر المجموعة هو المسيطر على المشهد لكل فرد من أفرادها المتأنقة على شكل عبابيد ترسم لوحات بعيدة الغور ، لا تقف عند حدود التفسير .
كلما حاولت أن ألتقط أنفاسي المستنشقة من وجعية جهل الحالة كان زفيري يشتعل بحرقة أكبر من ذي قبل ، فيا ترى مَن جعل الغراب أسودَ ، ولم هذا الحزن الغارق فيه ..؟
أحقاً تلك الحكايا الفاقدة الشرعية والأصل التي تقول : إنه ( شؤم ) ، وإن الغراب منبئ ناعق بكل ما لا يسر ؟!
لم أكن أسيطر على مشاعري كلما تغلغت باحثاً عن تلك الوشاية والفكرة السوداء عن طائر وديع أسود ،فمن بث هذه الأكذوبة طوال التاريخ على طائر السماء القاتم بالحداد كأنه ينعى شيئاً ما ؟! شيء لم يعد من بقايا سماوية ( فإن للبيت رباً يحميه ) ، بل هو ينعى نفسه ، أو يبلغ أن الأرض ومن عليها ستحال على ما يسر قريباً ، وما هذه الجموع الطائرة الناعقة المولولة في طبقات علوية شاهقة أبعد من أنفاسنا المتقطعة والمتصاعدة بما لا يفقه عامة الناس إلا مَن أدرك غور ذلك و وقعه .
ضاقت نفسي يوماً ، فجررت أذيالي المتثاقلة نحو عزلة أرضية يسمونها الناس بالصحراء ، مع أنها لم تكن جرداء ، ولا تغرز بها واحات ، إلا أن بعض النبت ظهر هنا وهناك ، و تعملق جزء منه حد الإظلال على الآخر ، وإمكانية حجب أشعة الشمس .
وقفت أدور رأسي ، وأخوض غمار حرب ضروس في أعماقي المتهالكة ، بحثت في كل الملفات التي يمكن أن أجد لها حلاً ، فلم أوفق في الوصول إلى من يهديني فيه إلى حل سوى تشتيت أكثر أصبح فيه الفكر يحارب ، وربما يدافع بجبهات عديدة ؛ إذ لم أتمكن من حسم معركة واحدة برغم حشدي قواي ، وتركيز دفوعاتي نحو حروب كانت أغلبها وهمية ، أو ردات فعل على عالم اسوأ.
جبت تلك الصحراء بطولها وعرضها ، قطعتها آلاف المرات ، ومرت علي حكايات وحكايات ، ثم تعاقبت الأجيال ، وتطور المكان حتى غدت فيه حبيبات الرمل متأنقة حداً تستطيع فيه أن تطير فيه .
شهق جبل هنا وتل هناك ، نخيلات وبيوت وأعاصير تضرب بين حين وآخر ، ولم يهدأ لي بال ، ولم أفهم من مجريات الأحداث سوى تعاقب الليل والنهار .
زادت حيرتي حد الشك في نفسي وحتمية ترتيب أوراقي ، حاولت الضغط على رقبتي لعلي أكتشف صحوتي ، أو أُبعد عن عينَي ضغث الأحلام التي ربما تكون قد سكنت وتعوشبت في فلذاتي ، ونمت و ترعرعت مع وسواس فكري ، في هذه الأثناء القاحلة الجرداء من النسيم لاح على حين غرة طائر أسود ، كان صامتاً طوال نظراتنا المتبادلة ، وما إن قصصت عليه أكذوبتي المتلبسة إياي حتى أخذ ينعق بما لم أسمعه من قبل ، فحاولت أن أُهدِئ من روعه .
قال :
- ( يا لَصَفاقة من يحيطون بك ، إن الخسران بفقدك كبير ) .
- وهل تنعاني ؟
- لا ، لكني أشم عبق حزن جاثم متكدس منذ أزل يدور في محيط رأسك ، ويتلبس مخرجاتك !
- تعجبت من سوء الطرح وجرأته ! وهل تمتلك قدرة التفسير ، هل ترى ما بعد الزمن وخارج نص الطبيعة ؟
هل تقرأ خيوط الشمس مثلاً ، أم تشرب من فنجان قهوة القمر ؟ لتيني بما عندك أرجوك ، لعل الله بعثك رحمة لتخفيف ضغط المجاهيل المتلاطمة في رأسي ! - ضحك حد السخرية – وربما الاحترام – أنت بائس أيها المسكين برغم كل هالة الاحترام المتلبسة المحيطة بك ثمة أنفاس تفضحك .
- لم أعد أهتم بما لدي ، هات ما عندك ؟
- لا شيء أزودك به أكثر مما تعرفه ، ولم آتِك من سبأ بخبر يقين ، فخزائن وحيك متوارثة مغروزة يتفتق النور منها حسب حقب زمنية وأرحام نسائية .. !!
لقد زاد طين بلتي ، حتى ابتليت بعدم الفهم ، فسالته: هل أنت طائر حكيم ؟ هل حزنك وحدادك الأبديان يمثلان مخرجاً مما تحمل في طيات ذاتك ؟
لم يجب ، لكنه التفت يميناً وشمالاً ، ثم ضرب جناحيه ضرباً تطاير إثره الغبار ، وعصفت الرياح ، وكأن مس عملاق لفحني ، بل صفعني .
حاولت أن أنهض ، لكنني لم أستطع اللحاق به ، فقد انضم إلى مجاميع سوداء تشبهه التحم بعضها ببعض ، لم أعد أرى غير أستار حدادية موجعة صارخة في دواخلها تنبئ بحالي ، وربما حالها .
نهضت أشاور نفسي عما دار وجرى في حواريةِ وعيٍ أو حلم أو حقيقة ، تثاقلت قدماي أكثر مما أنا فيه ، و حاولت كسر القيود التي بدأت تلتف حول جوارحي غير المستسلمة كلما جثم قيد أفك آخر .. حتى رميت السماء بنظرة ثقبت جرح في أعماقها ، وتساقط مطر كثيف ابتل به رأسي ، ونشطت إثره روحي ، وبدأت أتنفس شيئاً من ذلك الاخضرار المزيح التصحر .
صحيح أني لم أعِ من حوارية ضيفي الأسود شيئاً ، إلا أني أتذكر جيداً وصاياه التي لا يمكن أن تنسى ، فقد كان يغني على أنغام موسيقى الوداع التي استودعني فيها لحضن رحيم ، ثم طار بعيداً في أعماق غوص قال عنه : حتماً إنه أرحم !!