بقلم : اللواء الدكتور سعد معن الموسوي ..
في العصر الحالي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تيك توك، ساحة جديدة لتبادل الأفكار والمحتوى. ولكن ما كان يُفترض أن يكون منصة للإبداع والتعبير، تحول في كثير من الأحيان إلى مروج للتفاهة. لم تعد التفاهة مجرد ظاهرة ثقافية عابرة، بل أصبحت جزءًا من هوية العديد من الأفراد والمجتمعات. هذه التحولات التي نراها اليوم في شكل المحتوى المنتشر على هذه المنصات تمثل انعكاسًا لمجموعة من التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تعيد تشكيل مفاهيم النجاح والإنجاز. وهذا ما يعكسه قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11)، حيث تظهر الحاجة لتغيير داخلي يعيد القيم إلى مسارها الصحيح.
كذلك في مجتمعاتنا، بدأنا نرى كيف يتحول العديد من الأفراد، خصوصًا الشباب، إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للرزق. هذه المنصات أصبحت محط اهتمام لا لكونها تتيح الفرصة للإبداع والنمو الفكري، بل لأنها توفر سبلًا سريعة للشهرة والمال. كثير من الناس يركزون على التحديات السطحية أو الرقصات الشعبية للحصول على أكبر عدد من المتابعين والمعلنين، تاركين وراءهم القيم التي كانت تشدد على العمل الجاد والالتزام. وهنا يمكن أن نستحضر الحديث النبوي الشريف: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، ليؤكد أهمية الجودة والإتقان كمعيار للنجاح، لا السطحية التي تروجها هذه المنصات.
في هذا السياق، تتضح الفجوة بين القيم التربوية والمفاهيم الجديدة التي تحكم المجتمع. هنا يظهر تداخل مع ما أشار إليه الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف، حين قال: “إذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو في أحد المجتمعات، ويبرز التافهون، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل.” هذا التشخيص الذي قدمه تشيخوف في وصف المجتمعات الفاشلة ينطبق تمامًا على الوضع الحالي في كثير من الدول التي تهيمن فيها الثقافة السطحية. عندما تصبح التفاهة سيدة المشهد، فإن القيم العليا مثل الفكر النقدي، والابتكار، والعمل الجاد تتراجع إلى الوراء.
هذه الحقيقة تتلاقى مع مقولة الدكتور علي الوردي، الذي أكد: “انظر إلى الأشخاص الذين يقدرهم المجتمع، تعرف اتجاه الحضاري السائد في ذلك المجتمع ومصيره.” هنا، يكشف الوردي عن العلاقة الوثيقة بين الأشخاص الذين يقدرهم المجتمع وبين مصير ذلك المجتمع الحضاري. في مجتمعاتنا اليوم، إذا كانت التفاهة هي المعيار، فنحن أمام معضلة كبيرة في مسارنا الحضاري. فالمجتمع الذي يقدر التافهين ويتبع نماذج السطحية يعكس انحدارًا في قيمه وأخلاقياته، مما يهدد استقراره الثقافي والاجتماعي.
وتُعتبر منصات مثل تيك توك مثالاً على كيف يمكن للتسويق المفرط للمحتوى السطحي أن يغير من توجهات المجتمع. المحتوى الذي يتسم بالحماسة والانفعال يحقق انتشارًا أكبر من المحتوى الجاد الذي يتطلب تفكيرًا نقديًا. الدراسات تشير إلى أن المراهقين والشباب، الذين يشكلون غالبية مستخدمي هذه المنصات، يتأثرون بشكل كبير بالأمثلة التي يقدمها المؤثرون على هذه الشبكات. ولكن هذا التأثير غالبًا ما يكون ضارًا، لأنه يعزز صورة مشوهة للنجاح التي لا تركز على الجهد أو الإبداع، بل على الشهرة السريعة.
إدوارد سعيد أشار إلى هذه الأزمة بقوله: “الثقافة هي ما نصنعه في مواجهة التفاهة”، ما يدعو إلى أن تكون الثقافة أداة للنهوض ومواجهة هذا الانحدار. بينما يتزايد الانجذاب نحو المحتوى السطحي، يواجه المحتوى الثقافي والتربوي تحديات كبيرة في جذب الجمهور. هذه الظاهرة تعكس تراجعًا في قيم المعرفة، وتؤكد أن المجتمعات التي تضع الأولوية للمكاسب السريعة على حساب الفكر العميق هي مجتمعات مهددة بالفشل الحضاري.
ما نشهده اليوم من انتشار التفاهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد انعكاس للثورة الرقمية، بل هو أيضًا نتيجة لتغيرات ثقافية واجتماعية عميقة. كما أشار تشيخوف، فإن المجتمعات التي تهيمن فيها التفاهة تكون على شفير الانهيار. وفي ضوء مقولة الدكتور علي الوردي، يمكن القول إن المجتمع الذي يقدر التفاهة ويحتفي بها لن ينجح في بناء مستقبله. لذلك، من الضروري أن نعيد النظر في أولوياتنا الثقافية والاجتماعية، وأن نعمل على إعادة تقييم ما نعتمده من قيم ومعايير، كي نعيد التفكير في مصيرنا الحضاري
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي