بقلم :د. مظهر محمد صالح …
مد ثامر ذراعه وهو ينظر الى ساعته التي اطبقت عقاربها، لتنذر ان يوماً غامض المعالم سيستسلم لمغازلة المصير المجهول وهو يوم الثاني من آب 1990، ثم رفع رأسه من خلف دريئته كالضفدع الذي غرق في رمال الصحراء وهو يتنفس شيئا من الهواء، الذي اختلط برائحة التراب. ونظر امامه فلم يجد سوى صمت مخيف وهو يتطلع لظفرٍ هين يشجع على الهرب ولكن دروبه ليست سهلة المنال.
تذكر ثامر سنوات دراسته وتفوقه ويوم حصوله على درجة البكالوريوس في الرياضيات ،ولم ينس نفسه انه من عائلة اخذت مجلسها بين الاُسر والعائلات التي ولًدت للعراق جيلاً متعلماً من ابنائها، يزهو بالمعرفة ويحلم ان يحل السلام محل السيف وربما آمنت بالحب للعدو والصديق. و لايدري ثامر ماذا سيخبئ القدر من خلفه من الايذاء والقهر. ولم يتوقع في يوم من الايام ان تخذله نواياه الطيبة التي استمد منها القوة والعزاء.
تجمعت عند ثامر كل قواه الخاوية في تلك اللحظات ليطلق ارجله في وثبة جنونية صامتة قادرة على تحويل الكابوس الى حلم ودفن الموت الذي ظل يربض في ظلام دريئته. وهو مازال يستمع الى صدى صوت يخرج من باطنه ويضطرم بالرعب والالهام مردداً: ان نجاحك ياثامر هو رهن قوة خيالك ، فلا تترك مملكة مخيلتك متردداً وانت في هذه العزيمة. وان ارجلك هي مثقلة في معسكر الرمال، والبلاد كلها في شر عهدٍ انقض على حضارة الرافدين واوشك ان يبيدها. حدث ثامر نفسه في تلك اللحظات، هل المعركة، مع البلد الذي اقف على خط النار فيه، هي معركة وطنية ام معركة غرور يتسابق فيها الجبناء على تقديم فروض الطاعة الى الظالم بغض النظر عن اسم الظالم وجنسيته؟
وتذكر كم حصدت قبلها حرب الثماني سنوات من رجالات بلاده لكي يكتسب الظالم مجداً وشهرة دون ان يدفع ثمناً سوى دماء الابرياء. هرب ثامر ليلاً بمفرده نحو صحراء الكويت ومضى في سبيله كأنه شبح ذائب في الظلام وفي السماء نجم واحد يراقبه وهو يتطلع الى ظلمة الفجر والاختفاء في غلالاتها على الرغم من انها سريعة الزوال. ولم تمض سوى ساعات قليلة على هروبه وزحفه الى الامام ليفاجأ وهو يستمع الى حركة العجلات التي أخذ يعتقد من فوره انها تلاحقه شخصياً كقوة مدمرة تفجرت في قلب الظلام وهي تواصل الضرب بلا رحمة وشهوة طاغية للاذى لانزال العقاب الشامل بثامر كما تحسس في حينها.
لقد بدأت الظلمة تخفت وتتهافت وارجل ثامر منطلقة بلا توقف في تلك الفلات التي اخذت سخونتها ترتفع مع اطلالة الفجر الاول والتعب والخوف بدأ يزحف على عضلاته واعصابه مبكرا. فندت صوب ثامرصرخات واختلطت اشباح ونشبت معركة عمياء قوامها كلمات اطلقها وبصوت خشن احد قادة الحرب، وهو يعتلي مدرعته وبوحشية كاسرة تنفث حقداً وشهوة طاغية للاذى، اين هي وجهتك ايها الجندي المنفلت؟ وكيف يحلو لك ان تبادر بالهجوم قبلنا! وانت تسبق وحدتك العسكرية ؟ عليك اللعنة ايها الجندي، ارجع مجددا الى معسكرك والتحق بوحدتك ثانية؟ ومضى القائد يهدد وينذر في الهواء وهو يتقدم الى الامام. ومضى ثامرمنكسراَ وهو يزحف الى الخلف تلفحه نسمات حارة اختلطت بالرمال متراجعا بوجه أسيف وقلب منكسر وجراح نفسية لايضمدها احد، وأخذ قلبه يخفت أسى على وقع طبول حرب لن تنتهي.
ختاماً، ظل ثامر مستسلما الى احلام يقظته في العيش بسلام ،على الرغم من خيبة الامل الطويلة، حتى اصبحت ليلة هروبه ذكرى من بين مئات الذكريات الضائعة التي تقلبها ارض الرافدين وبدموع ساخنة