بقلم : حسن المياح …
《 الجزء الخامس 》
تحدثنا في الحلقة السابعة عن نوع آخر من الإرتباط ، وهو الغلو في الإنتماء بتحويل الإله النسبي المقيد المحدود الممكن الى إلاه مطلق شامل يستوعب المسيرة خطوة بخطوة ، ولحظة بلحظة ، ولا يفارقها ، لأنه المصدر الوحيد الأساسي الذي يمونها بما تحتاج اليه من وقود وقدرات وطاقات . وفي هذا النوع من الإرتباط نلاحظ أن المنتمي له يعطي ويجعل كل ولاءه الى المعبود الذي إختاره إنتقاء إصطفاء كمطلق شامل ، ليمده هذا الإلاه بما يحتاجه — في ديمومة حركته ومواصلته للسير الحضاري الصاعد الذي هو عضو فيه كإنسان يريد حركة حضارة وعيش حياة مدنية راقية — من وقود وقدرات وطاقات …..
وبما أن هذا الإلاه النسبي المختار المنتخب الممد الممون — الذي أتخذ مطلقآ شاملآ وفقآ لتفكير الإنسان الممكن المخلوق ، المحدود قابلية إستيعاب إنفتاح ذهن مبدع ، وإتساع عقل مفكر — يفقد القدرات والطاقات والتموينات والتزويدات تدريجآ الى أن يخلو منها ، ويصبح فراغآ خواءآ ، خامدآ عاطلآ ، فيتجمد حركة ، وينقطع تواصل ديمومة إستمرار عطاء حركة وتحرك ، لأنه الفقير الذي لا يملك بعدما نفدت موجوداته وتلاشت ممتلكاته ، فيكون العقبة التي تعطل حركة المسير ، والمانع الذي يحجز التحرك من الإستمرار فضلآ عن الديمومة ، لأنه هو ( هذا الإلاه النسبي المتخذ مطلقآ ) أصبح خاويآ ، فارغآ ، عاجزآ ، محتاجآ الى قدرات وطاقات حتى يساير الركب الحضاري في مسيرته الميمونة الصاعدة ….. وإذا به هو المتخلف العاجز الجاهل الذي ينطوي على الذات إنطواء وإلتفاف إفعى في فصل الشتاء سباتآ وإنجمادآ ، وركودآ وإعتمادآ سلبآ ، وتوقف حركة ، وتلاشي وجود مواكبة تطور المسير الإنساني الحضاري المتقدم الصاعد المستمر إبداع خلق وإكتشاف ، في إرتقاء وإرتفاع دائم مستدام ومستديم ، وإستدامته من إمداد المطلق الشامل الحقيقي الذي لا ينضب ولا يحتاج ، وهو فوق مستوى التفكير البشري ، بما هو عليه من إطلاق ، وعكس ما هو عليه الإنسان من إمكانية قدرات تفكير ، ومن محدودية طاقات وعي وإنتباه وإستيعاب ، وكل إناء بالذي فيه ينضح ويمتح ، ويعطي ويمنح ، الى أن ينتهي وينفد . وهذه هي حقيقة وواقع الوجودات الممكنة المحدودة القاصرة المحتاجة ، وبما تنطوي عليه من آلهة نسبية مصطنعة صناعة تفكير إنسان محدود ، ونتاج إفراز ذهني قاصر ، مقيد مربوط بما هو لإنسان ضعيف مخلوق ممكن الوجود …… ومهما تمرد الإنسان وطغى وتفرعن وكابر وإستأسد ، لا يمكنه أن يواكب السير الإنساني الحضاري الصاعد الى غايته ومنتهاه ، بتحويل إلاهه المحدود المصطنع الى مطلق شامل مستوعب يقود المسيرة الحضارية دوام تحرك وصعود ، وإستمرار إبداع وإرتقاء ، لأن الممكن الحادث المخلوق الذي يتساوى فيه الوجود والعدم إمكان حدوث وخلق وجود وعدم ….. لا يرتقي الى المطلق الذي هو كله وجوب وجود عطاء وخلق ومد وتموين ، ليس فيه ولا له إمكان حدوث وخلق وجود أو عدم مثلما هو الإنسان الممكن المخلوق ، بإعتبار أن العلة الأولى الواجبة الوجود ذاتآ ، لا علة لها ، لبطلان الدور ، وأنها هي أساس وجود العلل ، وأنها هي الخالقة للعلل ، لا مساويتها ، ولا هي المخلوقة لها …. وأنها علة العلل ، والسبب الأعمق للأسباب الظاهرة المحسوسة الملموسة المحتاجة ……
والإنسان بما أنه مخلوق إمكان خاضع الى زمان ومكان ، فإنه يتفاعل مع الموجودات التي يعيش معها والتي تحيطه وجود سعة إمكان ، على قدر طاقة عقله المفكر المحدود ، وما ترشده اليه نفسه الأمارة بالسوء ، وهو الحر المختار الذي يتخذ آلهة أو يصطنعها بقدر ما هو عليه من وعي وتفكير عقل ، وإتساع ذهن وإنفتاح بصيرة ، فهو المصيب في الإختيار إذا أحسنه بوعي ونفاذ بصيرة وعمق تفكير ، وهو المخطيء لما يكون ألعوبة نفسه الأمارة بالسوء الطامحة المنحرفة ، فترشده حسآ ومنفعة ذات ظاهرة طارئة الى أن يصطنع إلاهآ نسبيآ محدودآ بقدر ما يعيشه من محيط حياة واقعية قصيرة محدودة ، مرهونة بمكان وزمان محدد ومقيد ، يحاكيها تفاعلآ وإرتباطآ ، ويتقولبها آنتماءآ وولاءآ ، ويتفاعل معها ، لما للإنسجام بين السنخ وجنسه من تآلف وجذب ومقبولية إلتئام ، فترى الممكن المحدود ينجذب طبيعة خلق حسي الى ما هو مثله من وجود إمكان محدود ، فترى الإنسان — بما هو حس ونوع شعور — يميل وينجذب الى الممكن النسبي ، ويتصوره مطلقآ شاملآ مقنعآ له ، لتلبية حاجات وقتية زمنية محدودة معلومة مقيدة ، بعد ما يصنع منه مطلقآ مستوعبآ لما هو عليه من محدودية قابلية تفكير ، لأنه يلبي حاجاته الآنية التي يريدها ويعمل عليها ، ويتأملها ، ويتمناها ، فيجدها في هذا النسبي المحدود ، الذي يلبي له حاجاته لشوط قصير ….. .
ولكن بعدها يصطدم هذا الإنسان الممكن المحدود بتوقف تلبية الحاجات ، لأن مطلقه النسبي الذي إتخذه مطلقآ شاملآ ، قد عجز ، ونفدت موجوداته ، وتلاشت قدراته ، وأنفقت كل إمتلاكاته وحيازاته وطاقاته ، وبقي خلاءآ هواءآ ، فارغآ فقيرآ ، محتاجآ الى من يقف جنبه ، وينتشله مما هو فيه من عجز وحاجة ، وإدامة حركة وإستمرارية وجود حياة ، وهو الباقي المعدم الفقير الذي دائمآ وأبدأ هو في إحتياج وطلب المد والعون ……. !!! ولا خير في إلاه يشكو العوز والحاجة ، وهو العاجز المتسول الذي يترجى من أجل البقاء المحدود ، والوجود المقيد ، من يعينه ….. وذلك هو كل إلاه نسبي محدود يتخذ إلاهآ مطلقآ شاملآ …… وما أكثر هذه الآلهة النسبية المحتاجة المد والعون من الإنسان ذاته ، قبل أن تطلب تساؤلها من المطلق الشامل المستوعب ……
وهذا الإلاه النسبي المحدود القدرة والقوة والطاقة والعطاء ، عندما تنفد موجوداته وإمتلاكاته ، سيتحول الى حاجز مانع وإعاقة تطوق حركة الإنسان ، وتجمد قدراته على التطور والصعود والإبداع ، ويصبح الإنسان في متاهة يجتر ما عنده من وقود الذي لا يفيد حركة المسير الحضاري ديمومة تطور إرتقاء ، ولا إستمرار صعود نماء ، وإرتفاع درجة ثراء ، ولا قابلية نهوض إبداع ، وسيدور في نفس الحلقة التي تتآكل فيها وجودات طاقاته ، وموجودات قوته وقدرته التي هو عليها ، ويتخلف عن المسيرة الإنسانية الحضارية التي وقودها الدائم معها ، والمستمدته من مطلقها الحقيقي الشامل ، الذي هو الله سبحانه وتعالى ……..
وهذه الإلهة النسبية بكل نماذجها مرة تكون جهة أو شيئآ ما ، ينتمي اليها أو اليه الإنسان ، ويتخذ منها أو منه مطلقه الشامل ، ومثله الأعلى الذي يستمد منها أو منه وقود حركته الحضارية الصاعدة …. ومرة أخرى يتخذ من الإنسان الذي هو من جنس وجوده وخلقه مطلقآ شاملآ يحقق له طموحه في السير الحضاري الإنساني بما يغدق عليه من أعطيات وإمتيازات ، فيصيره له مطلقآ حينما ينتمي اليه ، ويمنحه ولاءه ليستمد منه القدرة على الحركة ومواصلة السير ، ويتغذى منه عطاء طاقة بما يهبه اليه ذلك الإلاه النسبي المحدود لولاءه اليه العامل المقتصر ، وإنتماءه المعتقد المتفاني المنحصر ، مصلحة ذات ، وطموح وجود صاعد …..
حسن المياح – البصرة .