بقلم : كاظم فنجان الحمامي …
في السبعينيات وبينما كنت أقضي المدة المقررة في منهاج التدريب العملي على ظهر إحدى سفننا، التي كانت تمخر عباب البحر، في المرحلة التي انتشرت فيها عدوى كتابة التقارير الكيدية، التي أودت بحياة الكثيرين ظلما وعدوانا. .
هناك في عرض البحر، استدعاني القبطان للتحقيق معي حول بيت من الشعر قالته العرب في العصر الجاهلي، كنت ومنذ الدراسة الاعدادية اتغنى بذلك البيت الجميل واردده، فكتبته على غلاف قاموس اللغة الإنجليزية، يقول البيت:-
كنا على ظهرها والعيش في مهلٍ.
والشّمل يجمعنا والدّار والوطن.
ترأس القبطان (؟؟؟؟؟) اللجنة التحقيقية، واشرك معه بعض الضباط والمهندسين. جلسوا جميعهم حول مائدة مستديرة يتوسطهم القبطان ببدلته الرسمية، واحضروا معهم رزمة من الأوراق وحزمة من الأقلام لتدوين إفادتي. .
علمت من سير التحقيق انهم فتشوا كابينتي، فلمحوا فيها هذا البيت مكتوباً على غلاف قاموس الجيب. .
سألني القبطان، وقد ظهر عليه الغضب والانفعال: لماذا كتبت هذا الكلام ؟، وما الذي تقصده ؟؟.
فقلت له: هذا ليس كلاماً يا سيدي، وانما بيت من الشعر يعود للعصر الجاهلي، وهو مقتبس من قصيدة جميلة، مطلعها:-
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها
أعاجها طربٌ أو صدّها شغل.
وهي قصيدة متداولة منذ قرون، وتُدرّس في المدارس العراقية، وليس فيها مساس بالحزب والثورة.
فرد عليَّ القبطان باستياء واضح: انت هنا للتدريب وليس لكتابة الشعر وقراءة القصائد (جوز من هاي السوالف التعبانة). .
فأجبته على الفور، وأنا ارتعد من شدة الخوف والفزع: نعم يا سيدي، سوف اعمل بنصيحتك، ولن اكتب الشعر بعد الآن. .
خرجت من قاعة الاجتماعات لا ألوي على شيء. لم أنم ليلتها، فقد كانت الكوابيس تطاردني خوفا من المجهول. .
هذا مشهد من مشاهد كثيرة للامتهان الانساني التي رأيتها بنفسي في مرحلة التدريب .
نحن عندما كنا نسمع كلمة (تحقيق) أو (أمن) نصاب بحالة من الرعب. طبعاً لم يأت هذا الرعب من فراغ، وإنما جاء على خلفية التعامل السيء مع المواطنين منذ ذلك الزمن وحتى يومنا هذا. .