بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
يشير الانغلاق الاجتماعي Social Closure في مفهومه الذي صاغه عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر Max Weber إلى احتكار الامتيازات قبل القيام بتطويره من قبل المفكر فرانك باركين Frank Parkin عالم الاجتماع والروائي البريطاني في جامعة كنت البريطانية وغيره إلى نظرية كاملة للطبقة والطبقات.
اذ تظهر نظرية الانغلاق مدى المحددات الاجتماعية للاستبعاد والعواقب الاجتماعية للإقصاء حيث يقترن الاستبعاد من مهام معينة بالاستبعاد من المكافآت والموارد والسلطة والمزيد من الفرص. كما يضيف عالم الاجتماع (ماكس فيبر) ان الانغلاق هو احد الوسائل التي تتحرك من خلالها الطبقات التجارية والمالكة على متصل من الشرعية، وإعادة انتاج فرص حياتهم في اتجاه الطبقة الاجتماعية ومكانة الجماعة. وفيما بعد ذهب انصار هذا الاتجاه الى ان الانغلاق هو أساس كل اشكال اللامساواة، ويبدو ذلك في المكافأة المادية، وشرف المكانة، بالإضافة الى الانتماء السلالي، والطائفة، وحتى هرمية المسميات في النظم الشمولية.
ان تفكيك منظومة الانغلاق الاجتماعي السياسي في العراق ،والتطلع الى البنائية السياسية الواعدة ،وجدت من يطرق جدرانها الناعمة ولاسيما عند تناول معضلة البلاد في مقولة :((تصدير الوهم .. او الوعي الملتبس )) التي تصدى اليها المفكر السياسي الاجتماعي الدكتور مزهر الخفاجي الى قول الحكيم سقراط عندما قال:
السر في التغيير هو ان تركز جلَّ طاقتك ليس على محاربة القديم ولكن على بناء الجديد …ويواصل المفكر الخفاجي مؤكداً ان النص آنفاً قد دعانا الى ان نفكك الكثير من الخطابات التي أقل مايمكن القول عنها أنها ملتبسة …او أنها تساهم في الأصطفاف مع الخطابات ذات الغرض المزعزع لمنطق الوعي الذي شكله تاريخ وحضارة وثقافة مجتمعاتنا ..إن لم نقل انها شكلت وَعينا وكانت سبباً في استمرار وجودنا عبر ألاف السنين.وفي مواجهة الالتباس وتفكيكه عبر معادلة
الانغلاق السياسي في العراق (الذي طغت على معطياته: الغنيمة والعقيدة والقبيلة والغلبة ) يطالعنا المفكر السياسي حسين العادلي في تأمل رائع كتبه في العام 2014 وهو يتناول ازمة الانغلاق والتباس الاجتماع السياسي في العراق من خلال موضوع (تصفير الازمات )لكي تفتح ابواب ذلك المجتمع السياسي على البنية السياسة الجديدة قائلاً :
((ياتي تعبير (تصفير الأزمات) كأساس جديد في هندسة علاقات العراق مع دول المنطقة والعالم، وهو أمر جيد ومبشر وضروري، لكن يجب أيضاً أن يعمم هذا المبدأ كأساس لهندسة البيت العراقي الذي يئن من التشرذم والإنقسام والإرهاب والجريمة والفوضى والفساد والتنازع السلطوي المفترس للدولة، إذ لا يمكن الحديث عن علاقات ايجابية ومتنامية مع دول العالم مع عراق منقسم ومتشرذم ومتعدد الرؤوس والسياسات والإتجاهات بعدد قومياته وطوائفه وأحزابه ونخبه)).
ان ما تعرض اليه الاجتماع السياسي في العراق على مدى العقدين السياسيين الماضيين من ازمات متكررة وتشرذم دون تصفير لتلك الازمات التي التبس بعضها مع البعض بل ظلت الازمة السياسية تتناسل باستمرار لتفرز عواقب خطيرة في التقدم الاقتصادي الاجتماعي والتي يمكن وصفها بلا شك بانها محاكاة مجاهيل المستقبل السياسي للبلاد التي يصقل جوهرها المجهول عبر تراكم كاربون حرائق تصادم المحاصصة على الغنيمة الريعية ما يعني القفز دون الصفر او نزولاً الى الرقم السالب دون التصفير الفعلي لازمة الانغلاق السياسي نفسه.
فبين القدرة على( تصفير الازمات والقدرة على رفع سقف التوقعات الايجابية للجمهور صاحب المصلحة الحقيقية في استدامة العقد الاجتماعي ) يسترسل مفكر علم النفس السياسي الدكتور فارس كمال نظمي مدركاً ذلك الالتباس بالقول : (( فسيكولوجياً، الانتخابات تعمل على رفع سقف التوقعات الإيجابية عند الجمهور المشارك بفعل ما يُسمى بـ”التفكير الرغبوي”، أي أن الناس تُسقط تمنياتها على الحدث الانتخابي بوصفه “مخرجاً” لأزماتها، لكن ما أنْ يعود الواقع السلطوي ليفرز معطياته الأساسية الأصلية، حتى تعود مشاعر التأزم من جديد وينخفض سقف التوقعات، ليرتفع سقف الإحباط إلى درجات مضاعفة عن السابق. ويقصد بالواقع السلطوي هنا أن المنظومة الحاكمة في العراق ستبقى متخادمة فيما بينها حصراً ولن تسمح بأي تقاسم لعناصر القوة السياسية مع القوى الجديدة، تأثراً بهيكليتها الأفقية المغلقة العاطلة عن التفاعل التبادلي مع المستجدات)).
في حين يختتم المفكر السياسي ابراهيم العبادي موضوع الالتباس والانغلاق الاجتماعي السياسي عند تصديه الى عنوانٍ مهم عبر عموده على صفحات الصحافة العراقية مؤخراً تحت عنوان:
((الخروج من الازمة)) وهو يبحث عن البناء الجديد قائلًا :
((…فقد دخل المشهد السياسي العراقي في تعقيد اكثر من اي وقت مضى ،لامفاوضات الاطراف قربت المتنافسين من الحل الوسط ولانوايا كسرالارادة المتبادلة خفت حدتها .السلوك السياسي الراهن يؤشر الى خطأ منهجي كبير ،فالمشكلة ليست في تغلب رؤية على غيرها وتقدم فكرة وتراجع اخرى ،المشكلة ان اللاعبين السياسيين ينظرون الى هذا التنافس الشرس بانه صراع على قيادة مكون ومن يخسر هذا الصراع سيكون خارج اللعبة بلا موارد .ولذلك صار التحشيد في هذه المعركة يستخدم ذات الادوات التي استُخدمت في المراحل الاولى من العملية السياسية الجارية ،ادوات الدين والمذهب ،وهي الادوات الخطرة التي يمكن ان تستخدم في الاتجاهين ،فمن كان صالحا في يوم ما يغدو شيطانا في اليوم التالي ،فان انحدار السلوك السياسي الى هذا المستوى من المجازفة بالرصيدالاخلاقي المتبقي ،يجرد القوى السياسية من الدافع السياسي الايجابي ويحول لعبة التنافس السياسي الى مصارعة ثيران اسبانية ،الفائز فيها مطارد بقسوة الدماء النازفة من الخصم والخاسر فيها ضحية عناد وتحدي .
لم تتمايز الاتجاهات السياسية العراقية بوضوح كامل على اساس فكري وبرامجي ،لايمكن ان نعد اتجاها بانه يساري في مقابل اتجاه يميني محافظ ،ولم تقدم كتلة مشروعها السياسي لمعالجة مشكلات الاقتصاد ومواجهة الفساد وادارة الدولة ادارة علمية صحيحة ،الجميع يرفع شعارات فضفاضة ويتحدث عن مباديء عامة والهم الاول والاخير هو تاكيد صوابية اختيارات الذات وتمايزها الحزبي .
وعليه فالمشكلة العراقية كما يقول المفكر ابراهيم العبادي التي تستنسخ مشاكل التعددية الطائفية اللبنانية وتعيد التسميات ذاتها (ثلث معطل وثلث ضامن ) مدعوة للتعلم من تجارب الاخرين لعبور المأزق ،النضج السياسي هو العامل المفقود في المعمة الراهنة ،وبينما ينهمك السياسيون في سباق التحدي وكسر الارادات ينشغل المثقفون في البحث عن مخارج للازمة باقتراحات تتراوح بين تعديل الدستور وتحويل النظام البرلماني الى رئاسي أو شبه رئاسي فيما يذهب اخرون الى ترجيح مقولة المستبد العادل إو المستبد المستنير ،باعتبار ان العراقيين لاينقادون الا للرجل القوي الحازم وغير جديرين بقبول التداول السلمي للسلطة في بيئة تكثر فيها الرؤوس المتصلبة . هذه المقولات تصبح ترفا سياسيا في واقع محتدم وتصارع غريزي قد يتحول الى عدوان لكسر الانسداد والاستعاضة عن حرب المفاوضات والاعلام بحرب السلاح ،مايستدعي ظهور فئة حكماء جدد يجترحون المستحيلات لمنع انزلاق الوضع الراهن الى الهاوية التي يخسر فيها الجميع )).
وهكذا تزداد (يوماً بعد يوم) ظاهرة
اغتراب المواطنية العراقية عن صناع السياسة والحياة السياسية في بلادنا ، فمرحلة استقطاب المشاعر المناطقية والطائفية والقومية ،لمصلحة بنية سياسية شديدة العزلة ،لم تثبت قدراتها بمرور الزمن على التنمية وبناء الانسان وترسيخ الاستقامة في ادارة شؤون البلاد العامة والمساواة في الفرص ، بل ان الفكر السياسي السائد لدى عامة الناس قد اختزله الزمن السياسي باتجاهين ، الاول ، ضعف الظاهرة الشعبية في حراك الحياة الانتخابية النيابية الاخيرة وخلو صناديق الانتخاب من المصوتين وبالعدد الامثل ،بل اقتصر التصويت والمشاركة بالغالب على جماعات المصلحة والمتحزبين والمنتمين والهواة الجدد في عالم المشاركة السياسة ، والأخر، لم تشكل الخلافات البرلمانية الحدث الاهم في حياة الامة التي اشبعت ياسا وضاعت الحقوق في ضجة كلامية انتهازية لاتنتهي الا بالمزيد من التخلف ونقص الخدمات واشاعة الفقر وغياب التنمية والاستقرار .
ختاما، لم تترك الحياة السياسية اليوم الا مساحة فراغ وصحراء سياسية خالية من اي مضمون يربط الشعب بالمجلس النيابي الذي غابت عنه الغالبية الصامته بالاساس .
وستبقى التساؤلات عن من يملاء المنطقة البيضاء الخالية الا من قوى سياسية متصارعة تكرر اجندتها دون جدوى في حياة الوطن من جهة وببن امة زادت اغترابا عن عقد الدولة الاجتماعي من جهة اخرى..! اذ ستبقى البلاد بحاجة الى (تنمية سياسية )تعيد نسج العقد الاجتماعي وتنسج المواطنية بصناعة القرار عبر نساج خيوطه من حرير لكي تنفتح بوابات الانغلاق في الاجتماع السياسي في العراق على بنيوية سياسية اخرى بكونها الإطار الأمثل لفهم سلوك الكيانات الأيدلوجية المختلفة، وتفسير مؤشرات صعودها وهبوطها، وتحليل عناصر خطابها دون وعي ملتبس وانغلاق في الاجتماع السياسي .