بقلم : فالح حسون الدراجي …
من كثر ما ذرفت عيناي من دمع عبر سنين العمر، ظننت أن منابع الماء في مقلتي قد جفت، لكني اكتشفت غير ذلك حين سمعت نبأ رحيل أيقونة الإبداع الاعلامي، والجمال الفلسطيني، شيرين أبو عاقلة، إذ ما أن تأكد لنا خبر استشهادها المفجع عبر شاشات التلفاز حتى انفجرت زوجتي بالبكاء قبلي، وسرعان ما وجدت نفسي أشاركها النحيب، والبكاء بحرقة ومرارة، وكأننا نبكي رحيل فرد عزيز من أفراد أسرتنا ..
بكينا بألم وحرقة ولم نفكر لحظة واحدة، سواء أنا العراقي القح، أو زوجتي المحجبة الملتزمة دينياً – أننا نبكي على امرأة فلسطينية مسيحية، تعمل في قناة لا نحبها ولا نحب برامجها، ولا اغلب رموزها أمثال (الإخوانچي) أحمد منصور، والاراجوز فيصل القاسم وغيرهما، فضلاً عن سياسة القناة الداعمة للإرهاب في العراق !
لقد كنا نبكي أمس، موت اعلامية موهوبة، شجاعة، مؤمنة بقضيتها الوطنية، ملتزمة برسالتها وقيمها المهنية، ولم نسأل عن ديانتها ولا عن مدينتها !
إذ يكفي أنها استغنت عن كل مباهج الدنيا من أجل وطنها السليب، وضحت بكل شيء من أجل حرية وكرامة شعب فلسطين، بينما ينام غيرها من (الرجال) المتشدقين بشعارات (العودة) على أسرّتهم هانئين آمنين.
ولعل الأمر الأكثر إيلاماً، ان هذه الفتاة تحملت العمل في قناة (الجزيرة) التي يرتدي أغلب العاملين فيها قناع الإسلام، ويتظاهرون بالإيمان، بل ويزايدون على المؤمنين، فصبرت معهم، ونجحت في عملها، وفي الحفاظ على قيمها الوطنية والمهنية والأخلاقية والانسانية لأكثر من ربع قرن دون كلل!
وللحق فإن الملايين غيرنا قد بكوا أيضاً استشهاد هذه القامة الفلسطينية الفارعة، وملايين البيوت والشوارع والصحف والوكالات في مشارق الأرض ومغاربها نعت رحيلها المفجع.
ولعل الشارع العربي كان الأكثر وجعاً والأشد فجيعة باستشهاد هذه البنت المتزنة، الرصينة، الحزينة، المدججة ملامحها بالأسى والحزن- بالمناسبة، أخبرني المفكر اليساري، الدكتور عبد الحسين شعبان أن الراحلة شيرين كانت تملك لطفاً وأريحية وخفة دم لايصدقها إلا من عرفها وعايشها عن قرب – وطبعاً فإن الدكتور شعبان يعرفها عن قرب ..
إن فجيعة العرب لم تكن في فقد شيرين أبو عاقلة فقط، ومقتل الأمة لم يكن في طلقة القناص الصهيوني التي أصابت رأسها فحسب، إنما كانت الفجيعة، والمقتل الآخر في كمية السموم الكبيرة التي تقيأها بعض الشيوخ المتشددين، وبما أفرغوه من قيء نتن كان مستقراً في نفوسهم الصدئة، فكان مقتل شيرين كافياً لإخراج هذا القيح الدفين من بطونهم ..
نعم، فأنا ومعي الملايين، مصدومون مما نشره بعض (رجال الدين)، والسياسيين الإسلاميين المتشددين العرب، وما طلبهم الصادم الوقح بعدم الترحم على الشهيدة شيرين، لأنها – نصرانية، إلا الزلزال الذي زلزل الأرض تحت أقدام هذه الأمة المريضة.
لقد صدمنا دون شك، وفجعنا جميعاً حين نشر رجل الدين اليمني عادل البحري على صفحته في الفيس بوك، (بوست) بعنوان (ماتت نصرانية)، وما نشره ايضاً الإسلامي عادل العلمي رئيس حزب الزيتونة التونسي ودعوته بعدم الترحم على شيرين أبو عاقلة، لأنها (مسيحية نصرانية)، وما حصل أيضاً على مواقع الشيوخ والسلفيين، و(الإخوانچيه) في الكثير من البلدان العربية، بما في ذلك (رجال دين من فلسطين)، ودعواتهم بعدم الترحم على الفقيدة، لأنها ليست مسلمة، بل أن أحدهم شتمها بقوله معلقاً: ( والله أوجعتم رؤوسنا بشيرين أبو عفطة)!
كل هذا القبح، وهذه الصلافة تجعلنا نخاف على مستقبل أجيالنا من هؤلاء القتلة، فهؤلاء الشيوخ الذين رفضوا الترحم على فتاة نجيبة، بطلة، مضحية، تفرغت لخدمة وطنها وشعبها ، وتصدت ببسالة للصهاينة الأوباش المغتصبين، لن يرحمونا قطعاً، ولا يمكن أبداً الوثوق بهم أو حتى العيش معهم تحت سماء واحدة، فإذا كان هؤلاء ينظرون الى الشهداء المقاومين للصهاينة بهذه العين العوراء، كيف سيكون نظرهم الى الناس الذين قد يختلفون معهم في الدين، أو في المذهب، أو في الرؤية للخلق والخالق والموقف من أحاديث أبو هريرة وصحيح البخاري؟!
أنا أعرف أن ثمة من يقول إن هؤلاء المعلقين المتشددين لا يمثلون الدين الإسلامي السمح، وأنا أتفق معهم في ذلك، ولكن أليس من الواجب علينا أن نحذر أنفسنا منهم، بل وأن نواجههم بما نملك من أسلحة، خاصة وإن هؤلاء المسعورين يريدون تدمير القاعدة المتينة التي أسست عليها وحدة تعايش الأديان، كما يسعون عبر هذه المنشورات الى تسميم الهواء الصحي، الذي كان وسيبقى هواءً نقياً يملأ ويعطر رئات المسلمين والمسيحيين والصابئة والأيزيديين، وكل أبناء هذا الكون الإنساني الجميل، الى الأبد..
إن ثقافة التكفير باتت للأسف اليوم درساً أولياً في منهج العصابات الإرهابية، لذا يتوجب علينا مواجهة هذه الثقافة الظلامية، بثقافة التنوير، ومصابيح المحبة والتآخي والتعايش، ونبذ الأفكار والتعاليم المتشددة والمتطرفة التي وضعها واستخدمها شيوخ الفتنة، كابن تيمية ومحمد عبد الوهاب وسيد قطب وعبد الحميد كشك وحسن البنا والقرضاوي والزرقاوي وايمن الظواهري وبقية شيوخ التكفير.. تلك الأفكار التي أنتجت لنا مآسي داعش ومصائب القاعدة وطالبان والنصرة وبقية المنظمات الارهابية التكفيرية الأخرى
نعم، يجب أن ننبذ التطرف ونرفضه دون استثناء.
أمس شاهدت فيديو على اليوتوب لحوار تلفزيوني أجراه الإعلامي اللبناني طوني خليفة، مع الشيخ المصري (أبو اسلام)، وقد أرعبني أبو اسلام هذا، وهو يجيب بوقاحة متفاخراً عن سؤال استفهامي للاعلامي خليفة قائلاً: نعم لقد مزقت الإنجيل بيدي هذه أمام الملايين، لأن القس زكريا بطرس انتقد بشكل غير مباشر بعض ما في القرآن!
فقال له خليفة: وهل تقوم بتمزيق الكتاب المقدس؟
فأجابه الشيخ ( الجليل) : نعم أمزقه، و ( …….. ) عليه !!
وبطبيعة الحال، فقد كان من نتائج هذه الفعلة المجنونة، أن قُتل في اليوم الثاني قبطيان مسيحيان، وجرح عدد من المسلمين في إحدى مدن مصر !
لذلك، وكي لا يتكرر مثل هذا الخرق الأهوج في سور وحدتنا الوطنية والقومية والإنسانية، علينا أن نواجه هؤلاء بجرأة وشجاعة دون وجل، لأن هؤلاء يستهدفون بكراهيتهم وظلاميتهم جمال حياتنا، وشمس مستقبلنا قبل أن يستهدفوا وحدة حاضرنا وماضينا .. لذا علينا نبذ ( إسلام) هؤلاء التكفيريين والذهاب الى إسلام علي بن أبي طالب السمح، علي الذي قال: ( البشر صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)..
وأن نذهب أيضاً الى مرونة وسماحة (أبو حنيفة النعمان)، وسيكون جميلاً ورائعاً لو تزودنا ببعض قيم المحبة التي آمن وأوصى بها وانتهجها السيد المسيح، لا سيما قوله: ( احسنوا الى مبغضيكم، وصلّوا لاجل الذين يسيئون اليكم
ويطردونكم- اي ان لا تكون قلوبكم قاسية).
ختاماً أقول: سيترحم على روح الشهيدة الباسلة شيرين أبو عاقلة عشرات الملايين من المسلمين، وغير المسلمين رغماً عن أنوف التكفيريين، كما سيقرأ لروحها الجميلة، المسيحيون والصابئيون والأيزيديون والعلمانيون (الكفار) ، أحلى قصائد محمود درويش وسميح القاسم ومظفر النواب، الذي سيفضح بصوته العالي، جبنهم وعارهم، ويعريهم عند ضريح عروس عروبتهم !
أما أنا، فسأنحني إجلالاً للنصرانية الباسلة شيرين أبو عاقلة !