بقلم : فالح حسون الدراجي …
قبل يومين، أرسل لي صديق الشعراء والفنانين العراقيين، مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي (فيديو ) للشاعر الكبير كريم العراقي، وهو يلقي قصيدة شعبية في أحد المهرجانات الشعرية السابقة، ومع الفيديو بعث السيد رسالة يسأل فيها عن صحته!
ولعل من حسن الصدف، أني كنت قد تسلمت من كريم العراقي في اليوم ذاته رسالة صوتية رداً على ( البصمة ) التي كنت قد أرسلتها له قبل أكثر من اسبوع، ولا أكشف سراً لو قلت، إن تأخر الرد من قبل كريم أثار قلقي، إذ لم أتعود منه مثل هذا التأخير من قبل، اللهم إلا حين يتناول الجرعة الكيمياوية، حيث يتعرض بسببها لاضطرابات معوية ونفسية، تجبره على الانقطاع خلالها، ليعود بعد يوم واحد أو يومين الى وضعه الطبيعي..
ومما زاد من قلقي وخوفي هذه المرة، أني وجدت في صوت كريم ضعفاً لم أجده في صوته من قبل ..
فاضطررت الى الإتصال به، لمعرفة مستجدات حالته المرضية، وهل ثمة عارض سلبي جديد لاسمح الله قد طرأ على وضعه الصحي..
وبعد التحية والسلام والسؤال، قال كريم: أنت تعلم أني أرقد منذ سنتين تقريباً في المستشفى، أصارع بإرادتي وصبري، مرضاً نال صفة الخبيث بجدارة واستحقاق، وهذا المرض كما يعلم الجميع، يستهدف أول ما يستهدف الحالة النفسية للمريض.. لكني، والحمد لله شخص قوي، وصابر، ومتفائل، بل أستطيع القول إني نجحت في دحر هذا المرض الخبيث معنوياً وسايكولوجيا، ولم أسمح له باللعب في هذه المنطقة، بل ولا بالوصول اليها، وهو أمر مهم جداً علاجياً، فالأطباء يعولون كثيراً في شفائي التام، على مقاومتي وقوة إرادتي، وأنا أسمع هذا الكلام منهم كل يوم تقريباً ..
وقبل أن اسأله عن سبب ضعف صوته الذي ظهر في البصمة، قال لي:
خلال هذا الأسبوع تم إجراء فحوصات جديدة ومتنوعة لي، من أجل معرفة تأثير وفاعلية العلاجات التي تناولتها، وقد ظهرت النتائج بأمرين، أحدهما إيجابي وهو مفرح جداً، والآخر سلبي!
قلت : وما هما؟
قال: الإيجابي هو استجابة جسمي الممتازة، للعلاج الكيمياوي، وهو أمر أفرح الأطباء، إذ ظهر ذلك التأثير الإيجابي بوضوح في المناطق المصابة بالسرطان، حيث بدأت تتعافى، أما الأمر السلبي، فهو اكتشافهم ( ورم ) جديدا في اللمفاوي ..إلا أن الأطباء متفائلون جداً إزاء حالتي العامة، وغير قلقين بالمرّة، بل إنهم قرروا بناءً على ذلك، تغيير نوع وكمية الجرعة الكيمياوية..
قلت له: إنها أخبار مفرحة حقاً، لكني أريد منك أن تعطيني رأيك أنت بنفسك، ولا أريد رأي الآخرين.. فأنت صاحب الشأن، وأدرى من غيرك بشعابك، بمعنى أنك وحدك من تقرر، إن كنت واثقاً من مواصلة الصمود، والصبر، والتحدي، ودحض المرض الخبيث أم لا؟
قال: لا أفهم ما تقصد بالضبط ؟!
قلت: أنا وأنت ندري أن الأعمار ليست بأيدينا، لكن الذي أعرفه أنا ومتأكد منه، أن مصائرنا بأيدينا نحن، وأن عبور أصعب المصاعب، والأزمات، والمحن، التي يعتمد فيها على قوة الإيمان والعزيمة والتحمل، هي بأيدينا نحن أيضاً، فثمة امتحانات قاسية متعددة، يكون لشخصك، النصيب الأكبر بالنجاح فيها، مع توفير وتهيئة بعض الظروف والمستلزمات المساعدة..
وعلى سبيل المثال، أنا شخصياً واجهت مرضاً خطيراً في العام الماضي، وقفت فيه أمام الموت وجهاً لوجه، بعد إصابتي بفايروس كورونا القاتل، وكان الخيار أمامي، إما الإستسلام للقدر والمرض والقبول بالموت، أو المقاومة والمواجهة، والتسلح بالإيمان، والثقة بالنفس، والأمل..فاخترت (الأوبشن) الثاني.. وانتصرت!
وأكملت كلامي بالقول:
- لذا أرجوك ياكريم ان تقرر وتصمم بنفسك على دحض المرض الخبيث، قبل ان يقرر لك الأطباء ، فانتصر عليه من هذه اللحظة، وأنا واثق بعد صحبتنا التي تجاوزت ال 55 عاماً، وصرت أعرفك أكثر مما اعرف نفسي، واكثر مما تعرف نفسك، انك قادر على تحقيق هذا النصر المهم..
قاطعني كريم بضحكة صافية، وشعرت من خلال هذه الضحكة اللامعة، أن معنوياته قد ارتفعت مليونا في المئة، وآماله انتعشت جداً، إذ يبدو أني بعثت في روحه دفقة أمل وفرح مضافة، كما شعرت بأن كلماتي أضاءت في عتمته العميقة، ألف نجمة وألف قمر ..
فجأة توقف كريم عن ضحكته، وقال لي: كلامك هذا مهم ودقيق جداً يا فالح .. وثق أني قادر على تحقيق ما تتمناه وتريده لي، فأنا متفائل رغم الأوجاع، وقسوة المرض، وعتمة الدنيا.. وأنا مبتهج رغم أن رقود شاعر لسنتين في مستشفى، بين جرعات الكيمياوي، والمضادات الأخرى، أمر ليس سهلا بالمرة، فنحن الذين كنا نحلق بخيالنا في سماوات الفن والجمال، والمترعة قلوبنا بالفرح والحب والحياة، لا يمكن أن نعيش مثل السجناء مقيدين بسلاسل الظلمة والمرض والألم.. نحن يا صديقي عالم خاص، ومزاج خاص، وطينة خاصة، حتى صباحنا خاص بنا، أما مساؤنا فهو قطعاً ليس مثل مساءات غيرنا، فأرواحنا مثل فراشات تحوم حول قناديل الفرح، وبين مشاتل الياسمين والقداح. ورغم هذه الخصوصية العذبة ( البهيجة) التي كنا فيها، تجدني اليوم بإقامتي في هذا البحر الموحش، صابراً متصبراً، أصارع أمواج البحر المتلاطمة لوحدي منذ سنتين.
قلت له متسائلاً: لوحدك؟
من قال لك أنك كنت وحدك في هذه المعركة الشرسة، أنت مخطئ جداً ياكريم، فمن كان معه كل هؤلاء المحبين لن يكون وحده قطعاً!
وصدقاً أقول لك، إن أهلك وأصدقاءك وزملاءك ومحبيك من العراقيين البسطاء الطيبين، الذين لا تتسع الأرقام لأعدادهم، معك في هذه المواجهة، ولن يتخلوا عنك أبداً.. كيف نتركك لأنياب المرض الوحشي، وأنت الذي كتبت للوطن والناس، وللعشاق المحرومين، أحلى القصائد والأغنيات ؟
صمت كريم لحظة، ثم أطلق حسرة طويلة، شعرت فيها أن صوته خالط دمعاً ذرفه بصمت، وهو يقول: أخي أبا حسون، أمانة في عنقك أن تبلغ تحياتي وسلامي لكل الأصدقاء، والأحبة، وجميع العراقيين.. فموعدنا سيكون في بغداد قريباً بإذن الله، وسنحتفل معاً بمجد الصداقة، وعيد المحبة العراقية الخالصة، فأنا لا أريد من الدنيا سوى محبتكم ودعائكم، وأمنياتكم المعطرة بالحب والأخوة النبيلة.
أغلقت التلفون معه، وتمنيت لو يسمع كل أصدقاء كريم، ومحبيه من العراقيين وغير العراقيين أمنياته، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء له، فهو بحاجة اليوم لدعاء المؤمنين، ولمحبة كل الأصدقاء والزملاء – بما في ذلك الذين اختلفوا معه بسبب أو بدون سبب- !
فكريم سيعود بمحبتكم الى العراق قريباً وهو معافى ومشافى..
وحتى يوم مجيئه الجميل، سأرفع كأسي المترعة بالحب والوفاء هذه الليلة وكل ليلة: بصحة صديقي كريم العراقي !