بقلم : فالح حسون الدراجي …
ما أشبه اليوم بالبارحة؟!
هذه الإفتتاحية كنت قد كتبتها ونشرتها هنا قبل أشهر، ونظراً لتفاقم الوضع الاقتصادي للناس، وتردي الحالة المعيشية للعراقيين، وجدت من المفيد والمهم إعادة نشرها، مع حذف النداء الذي كنت قد وجهته في نهاية المقال الأصلي الى رئيس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي، إذ لم تعد ثمة ضرورة لهذا النداء !!
لن أتحدث عن النفط العراقي وملياراته التي سُرق بعضها على يد الشركات البريطانية أيام نوري السعيد، وبعضها على يد صدام حسين وعائلته، وأخيراً سرق ( كله ) من قبل أباطرة الفساد السياسي والإداري من الذين جاؤوا بعد سقوط نظام البعث الصدامي ..!
كما لن أتحدث مقارنة، عن ما صنعته وشيدته الدول المجاورة من تجارب فخمة في البناء والاعمار والاقتصاد، رغم أن هذه الدول مثل الإمارات وقطر لا تملك ربع ما يملكه العراق من موارد نفطية وغازية !
ولن أتحدث عن مملكة الأردن التي لا تملك عشر موارد العراق، بل هي لا تملك من الموارد أصلاً، فضلاً عن افتقادها للمياه والارض الخصبة والمناخ الزراعي الملائم، بمعنى أنها بلا نفط ولا زراعة ولا صناعة ولا هم يحزنون !
لكن الأردن والإمارات وقطر، والسعودية التي تملك نفطاً يقارب حجم النفط العراقي، وكذلك البلدان الأخرى المقاربة للعراق، أو ربما الأقل منه اقتصاداً، وأقولها بألم وحسرة، إن هذه الدول تملك ما لا يملكه العراق.. وأقصد به، القيادات النزيهة القادرة على توظيف هذه الموارد في خدمة الوطن والمواطن معاً.. لذلك تجد مواطنيها يتناولون رغيفاً نظيفاً مشبعاً بغموس الكرامة، دون الحاجة للبحث عنه في حاويات القمامة !
وكي أكون واضحاً، فإن النوع السيء من القيادات العراقية يشمل أغلب القادة السياسيين العراقيين في العهد الملكي والعهد البعثي والعهد الذي تلاه، أي عهد ” الجماعة )!
فمثلاً، نوري السعيد باشا، الذي يتباكى على عهده البعض، وضع النفط العراقي برمته في يد الشركات البريطانية، وتحت سلطة نفوذها السياسي والمالي، فكانت مقاليد الحكم في البلاد بيد هذه الشركات ..
وحين جاءت ثورة الرابع عشر من تموز التحررية العام 1958 بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، تحرر النفط العراقي، والدولة العراقية من قبضة بريطانيا، لذلك قامت الشركات البريطانية والمخابرات الأمريكية ومعها الرجعية العربية والفارسية، وزعماء القومية العربية وعملاؤهم في المنطقة بتدبير انقلاب دموي ضد حكم قاسم!
فتخلصوا الى الأبد من الزعيم الذي حفظ موارد العراق وكرامة المواطن، ولم يضع فلساً واحداً في غير مواقع البناء والاعمار والتصنيع والتنمية.
وللحق، فإن الرئيس عبد الرحمن عارف لم يكن أقل من الشهيد عبد الكريم قاسم، نزاهة ووطنية، لكن الرجل كان ضعيفاً للأسف، فلم يتمكن من تحقيق المنجزات التي حققها الزعيم قاسم.
ولما جاء صدام حسين الى الحكم، توسعت وتضخمت موارد النفط العراقي بشكل كبير جداً، لكن صدام أضاعها على عمليات تصنيع فاشلة كصواريخ الحسين والعباس، وعدنان واحد وعدنان اثنين، وغير ذلك من المهازل التي دفع العراق بعد ذلك عشرات الملايين من الدولارات ثمناً لتفجيرها والخلاص منها، وهكذا أضاع صدام حسين موارد العراق العظيمة على الحروب، وانشطة المخابرات، ودعم عصابات ( أبو نضال) ومجاهدي خلق، وغيرهم من المنظمات والعصابات الارهابية، فضلاً عن مليارات الدولارات التي ضاعت في بنوك الاردن وسويسرا ولندن وغيرها من المصارف العالمية، بعد مقتل حسين كامل وعدي وقصي وبقية افراد الأسرة، وضياع أرقام ( الكود) لحسابات الأرصدة العراقية السرية الهائلة، اللهم إلّا ما عثر عليه من مال، مبعثراً هنا وهناك، وما لطشته رغد ابنة صدام من أموال وارقام تحتفظ بها لنفسها، وما خرج مهرباً من قبل عوائل قادة البعث !
كل هذا بكوم وما حصل بعد سقوط عصابة صدام بكوم آخر- كما يقول الأخوة المصريون – وأقصد به تقاسم الجماعة الذين جاؤوا للحكم بعد 2003 – كرؤساء ووزراء ومديرين عامين وسفراء وقضاة ورجال اعمال، واصحاب بنوك، وهيئات اقتصادية حزبية، وقادة في الجيش والشرطة والاستخبارات، ورجال دين، ورؤساء اتحادات رياضية ومنظمات مجتمع مدني ورؤساء نقابات مهنية، واصحاب قنوات فضائية، ووسطاء وسماسرة، وغيرهم من اللصوص .. نعم، فبعض هؤلاء – إلا النزر اليسير – قد تقاسموا مالية العراق الفخمة، بحيث بات القضاء العراقي اليوم بحاجة الى اصدار اكثر من خمسين الف مذكرة قبض ليتمكن من توقيف (بعض) وليس كل اللصوص والمرتشين والفاسدين في الدولة !
ونتيجة لهذا الفساد الفظيع، أصبحت – ولأول مرة في تاريخ العراق، أي منذ حكم نوري السعيد حتى اليوم، الاف العوائل العراقية العفيفة والشريفة، تبحث عن قوتها في حاويات القمامة، وهو أمر لم يحصل من قبل قط حتى في زمن المقبور صدام !
وهنا يحاصرني سؤال (خشن) مفاده:
كيف يتدبر المواطن العراقي الشريف رغيف الخبز له ولعائلته، إذا كان عاطلاً عن العمل -طبعاً هو عاطل بمزاج الحكومة والظروف وليس بمزاجه ورغبته -؟!
وليس أمامه هنا غير تنفيذ وصية شيخ الثوار أبي ذر الغفاري حين قال متذمراً:
” عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه”!
ولكن، كيف يشهر هذا الجائع سيفه، وهو بلا سيف أصلاً، ثم على من يشهر سيفه، والأوراق مختلطة بشكل عجيب، ناهيك من أن كواتم الصوت وبنادق القتلة تتربصه وتغتاله، وهو أعزل في ساحة التظاهر، أو أمام بيته، ولا يملك غير صوته فحسب يشهره، باتجاه من يسرق قوته وقوت اطفاله..
لذا فإني أعلن تضامني مع آباء الأطفال الذين يعتاشون اليوم على حاويات القمامة في كل مدن العراق، أو في مزابل العراق لا فرق!
وأدعم منفذي وصية أبي ذر الغفاري، شرط أن يتوفر لهم السيف..
ولا أظن أن أحداً في الدولة العراقية بحاجة الى أن أُذكّره بأغنية الفنان الشيوعي العملاق زياد الرحباني التي أطلقها بوجه اللصوص والعملاء، وسارقي قوت الشعب، صارخاً قبل سنوات :
” أنا مش كافر.. أنا مش كافر .. بس الجوع كافر .. أنا مش كافر بس المرض كافر .. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر .. أنا مش كافر.. لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيي كل الأشيا الكافرين ” ؟!