بقلم : فالح حسون الدراجي ..
ينتابني شعور بالعجب، وأنا القروي المولود في إحدى قرى ناحية كميت النابتة في أرض تقع في أقصى أقاصي محافظة ميسان، كلما شاهدت شيئاً مبهراً، وقد لا يبهر هذا الشيء أحداً غيري، لذلك لم يكن غريباً أن ينتابني هذا الشعور المبهر، وأنا أصل أمريكا لاجئاً، وأهبط لأول مرة في مطار كندي في نيويورك قبل ربع قرن تقريباً، واذكر أني لم أنم ليلتها رغم متاعب سفري الطويل.. فقد قضيتها ساهراً حتى الفجر – قبل أن أطير الى ديترويت – وأقيم فيها.
كنت أمشي مذهولاً في شوارع نيويورك، اتنقل من شارع الى شارع، ومن موقع صاخب، مزدحم، ضاج بالأضواء والألوان والنساء، الى موقع أشد ازدحاماً وصخباً وأضواءً.. حتى أني تذكرت وقتها رباعية الكاتب الكبير شمران الياسري وتحديداً روايته الثالثة غنم الشيوخ، وكيف قال على لسان بطلها: إن (ريحة البرجوازية غذرة)!
لقد راودني الشعور نفسه بـ (غذارة) الرأسمالية اليوم، وأنا أتابع السجال المحموم بين سياسيي الحزبين الأمريكيين، بعد ما تعرض زوج زعيمة الديموقراطيّين في الكونغرس الأميركي نانسي بيلوسي لاعتداء خطير، عندما هاجمه متسلل بمطرقة يوم الجمعة، بعد اقتحام منزلهما في ولاية كاليفورنيا، ليُنقَل بعدها إلى المستشفى للعلاج.
إنه شعور مزدوج وغريب لم أجد له تفسيراً، وأظنه ناتجاً عن ارتطام حضارتين وتصادم ثقافتين، واختلاف اخلاقيتين عندي، أخلاقية رجل ولد ونمت طفولته في ناحية كميت، في ظل منظومة قيمية معينة، ثم عاش صباه وشبابه حتى كهولته في مدينة (الثورة)، وتربى على القيم الأخلاقية ذاتها، ثم فجأة وبلا مقدمات، وجد نفسه في مجتمع آخر، وحياة أخرى، وقيم أخرى، يتقاطع الكثير منها مع الكثير من تلك التي نشأ وتربى عليها في صباه وشبابه.
وقطعاً، أنا لا أبتغي هنا التعرض بالسوء للحياة في أمريكا، ولا بالنقد لقيمها، فهذه القيم والممارسات خاصة بمجتمعات لها أنماطها وسلوكها ومصالحها المختلفة عن مجتمعاتنا، وليس معقولاً ان تتخلى امريكا عن منظومة قيمها لصالح رجل شرقي قادم من قطاع 43 في مدينة الثورة، لاسيما وأن في المجتمع الامريكي الكثير من العوامل والعناصر الانسانية النبيلة والرائعة التي يتوجب عليّ السير معها، لكني أردت فقط هنا أن أعرض السبب الرئيسي الذي جعلني أتحاشى الاختلاط بحياة المجتمع الامريكي، طيلة ربع قرن، مفضلاً الانعزال والعيش في عالمي (العراقي) المحض، رغم إني أقيم وأعيش الان في ولاية (كاليفورنيا)، التي تعد جنة الله على الأرض..
وعوداً لموضوع الاعتداء على زوج (نانسي)، والذي جعلته محور مقالي هذا، فقد قال المتحدّث باسم رئيسة مجلس النوّاب الأميركي، إنّ الرجل الذي هاجم زوج (نانسي)، كان يبحث عن الزعيمة لقتلها، لكنه ضرب زوجها حين لم يجدها في البيت، إلا أن الجمهوريين قالوا كلاماً غير ذلك، وحاولوا بطريقة ما، الغمز من قناة الرجل، عبر تصويره بشكل مغاير، حيث ادعى بعضهم أن الرجلين -أي المعتدي والمعتدى عليه- كانا شبه عاريين، وأن الحادث لم يكن سياسياً، وأن المطرقة التي استخدمها المعتدي كانت موجودة أصلاً في بيت الزعيمة نانسي، وهذا يعني ان (المعتدي) لم يأت والمطرقة معه، ولم يكن ينوي قتله، إنما اختلفا ربما بسبب ( ….. )!
وطبعاً، أنا لا أريد أن أحشر القارئ في لجة الخلافات الدائرة الان بين الحزبين الامريكيين حول الحادث، ولا أحب أن أنقل مفردات لغة التسقيط والاتهامات التي تبادلها الحزبان الأمريكيان فهما يخوضان منافسة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي بعد اسبوع واحد وهذا يفسر للقارئ اسباب هذا السجال المحموم!
وقطعاً أن هذا الأمر لا يعني القارئ العراقي من قريب أو بعيد، لكني فقط أردت أن أطرح مثالاً عن سوء الاعتبارات، وتردي القيم الأخلاقية في الخارطة السياسية الأخرى وتدني مستوى التنافس وانحدار خطابه نحو قاع الحضيض بحيث وصل الأمر الى استثمار حادثة اعتداء لا انساني، تستدعي التعاطف مع رجل وصل الثانية والثمانين من عمره تعرض لإصابة خطيرة في جمجمته ولم يخلص من الاتهام والتدليس، فأي منحدر خطير وصلته مجتمعات السياسة والقيم الرأسمالية؟
وقد يسالني سائل، فيقول: هل إن تنافس الاحزاب السياسية، في أمريكا أو في غيرها من البلدان، قد تدنى وتراجع، دون أن يتدنى في العراق مثلاً، أو في مصر وسوريا والاردن وتركيا وايران وروسيا والهند والخليج، وغير ذلك من بلدان العالم، وهل من الضرورة التركيز على فضائح امريكا دون غيرها، وكأن سياسيي العراق والبلدان العربية والشرقية، قديسون؟!
وجوابي: إن أمريكا تقود العالم سواء رضينا أم أبينا، وهي محط أنظار الدنيا كلها، فضلاً من أن لديها أعظم ماكنة اعلامية كونية دون منافس، لذا فإن خيرها يخصها وحدها، بينما (شرها) سيعم على الجميع، كما يقول المثل العراقي.. وعلى هذا الأساس فإن لغة التسافل والانحطاط في حوارات السياسة الامريكية ستنتشر كما النار في الهشيم، وتنتقل انماطها بسرعة الى دول العالم، فتتلقفها الأجيال الجديدة كما تتلقف دائماً صيحات الموضة وأزياء المشاهير وحمّى تغيرات الحداثة.
واعتقد أن (البينه مكفينه) فعلامَ نبحث عن بلوى جديدة، ومصائب ساستنا تكفي وتغني والحمد لله.. ومن لم يصدق فليسأل الأستاذ مشعان الجبوري، أو (الدكتور) احمد عبد الله (أبو مازن)، وسيجد لديهما الجواب الشافي !
أنا شخصياً أخشى انتقال عدوى التلاسن والتخاطب الخشن الى سياسيينا، وخصوصاً أعضاء الإطار التنسيقي والتيار الصدري، فيتحدثان – لاسمح الله- بذات اللغة الخشنة التي يتحدث بها اليوم اعضاء الحزبين الامريكيين، خاصة وأن العراقيين ليسوا مثل الامريكيين، الذين يتحاورون باعصاب باردة، ويختلفون على شاشات الاعلام فقط، أما نحن، فحواراتنا دائماً بالهاونات، وخلافاتنا تحل بالكاتم، واذا عجز الكاتم، فثمة طائرات مسيرة تحقق النتائج المطلوبة (للحوار)!.
ولعل مايثير الخوف، أن التيار والاطار هما القوتان الأكبر عدداً وعدة وتسليحاً ومالاً وشعبية في العراق، وهما المسيطران الحقيقيان على الساحة السياسية، وإذا ماتحدثا أو (تحاورا) بلغة غير ودية، فستكون النتائج كارثية على العراقيين لا قدر الله.
لذا، أطمح أن يتنافس الاطار والتيار، منافسة وطنية، وبروح رياضية، من اجل تقديم خدمة أفضل للعراق وللشعب العراقي الصابر المظلوم، وأن يفكر كل منهما في كيفية تحقيق المنجز الوطني، وليس في كيفية تدمير الآخر.. كما أتمنى من كل قلبي أن لا يختلفا، وإن اختلفا، فليختلفا بسلام فحسب، واذا اتفقا، فارجو ان لا يتفقا على حساب حقوق العراقيين.. لأني بصراحة أتوجس خيفة من هذا الهدوء المقلق هذه الأيام، داعياً الله ان يجمع بين قلوبهم ويوحدها، لما فيه خير العراق وفقرائه.
إن مكسب الحب برأيي مهما كان صغيراً، أكبر من مكسب البغض حتى لو كان كبيراً، فدعونا نجرب مكاسب المحبة، ونلغي من رؤوسنا فكرة البحث عن استحداث أسباب جديدة لاسقاط الخصم وتدميره .. !
وهنا يحضرني مشهد رأيت فيه مذيعاً يسأل أحد مشجعي ريال مدريد قائلاً له: هل تحب أن يفوز ريال مدريد، أم أن يخسر فريق برشلونة؟
فاجاب المشجع بسرعة: أحب خسارة برشلونة !
فقال له المذيع : لماذا؟
فقال المشجع: لأن خسارة برشلونة، تعني الفوز لريال مدريد !
نعم.. هكذا يفكر البعض للأسف !!