بقلم : فالح حسون الدراجي ..
في افتتاحيتي السابقة تحدثت هنا عن القيم الانسانية التي تحملها النفوس الكبيرة، وضربت بذلك مثالين، الأول، تجلى بموقف الشاعر الكبير حسن المرواني، الذي رفض استلام الجائزة الأولى في مهرجان كلية الآداب الشعري، لاعتقاده أن قصيدة الشاعر الكبير عبد الأله الياسري (قافلة الاحزان) أحق بالجائزة من قصيدته (أنا وليلى). والمثال الثاني ضربته في موقف اللاعب البلجيكي (دي بروين)، الذي استنكر منحه جائزة أفضل لاعب في مباراة فريقه مع كندا ضمن مباريات كأس العالم 2022 في قطر، مرشحاً الجائزة لأحد لاعبي الفريق الكندي.
وقد كان مقالي منصباً على موقفيهما الرائعين، المميزين، وليس فقط حول قدراتهما ومهاراتهما الفنية المتقدمة في اختصاصيهما، لأني أرى أن قيمة الشاعر (الكبير) مثلاً، لا تكمن في صياغة القصيدة، والتحليق بها في سماء الإبداع فحسب، إنما القيمة الحقيقية تكمن – حسب وجهة نظري – في جمالية النص، وسمو اغراض القصيدة، مع انسانية الغاية ونصاعة الهدف، بمعنى أن لايكون النص وحده المقياس لأهمية الشاعر وتميزه عن اقرانه.. ونفس الشيء يقال عن لاعب الكرة، فالأهداف التي يحرزها هذا اللاعب أو ذاك في مرمى الخصوم، غير كافية لاعتباره لاعباً عظيماً يمنح لأجلها صفات والقاب فخمة ما لم تقترن بمزايا ومواقف داعمة للمهارة والموهبة أيضاً..
إن اللاعب الكبير – وكي يستحق نيل هذه الصفة – عليه ان يكون كبيراً داخل الملعب وخارجه، وأن يكون قدوة لجيله، وعلامة تاريخية فارقة، وإلاً فلن يكون أكثر من لاعب ماهر وموهوب مثل غيره من المهرة والموهوبين.
أمس، رأينا فعلاً سلبياً قام به اللاعب رونالدو، أساء فيه كثيراً لرصيده الابداعي وللحق، فقد تمنيت أن لا أرى هذا النجم اللامع بهذا الموقف المخجل، لاسيما وأن هناك مئات الملايين من المعجبين به يشاهدون المباراة، بينهم الكثير من الفتيان والشباب الذين يعتبرونه قدوتهم ومثلهم الأعلى، وهنا يكمن الخطر، ويصبح الأذى ذا أهمية استثنائية.. فما قام به رونالدو في مباراة البرتغال واورغواي التي جرت مساء أمس في بطولة كأس العالم في الدوحة، واحتفاله المثير (بتسجيله) الهدف الاول في مرمى الفريق الخصم، لاسيما حين رفع قبضتيه وقلصٌ عضلتي ساعديه فرحاً، قد أعطى فكرة للجميع بأنه صاحب الهدف، وبث ايحاءً واضحاً بان الهدف سجل برأسه !
ورغم أننا -كمشاهدين – لم نر رأس رونالدو تمس الكرة، بل أن بعضنا كان واثقاً- بعد اعادة الهدف لمرات- من أن الكرة قد دخلت المرمى بتسديدة اللاعب (برونو فيرنانديز) فحسب، وإن رونالدو لم يمسها قط، لا برأسه ولا بكتفه، ولا حتى بأنفه، لكننا تركنا الامر، وقلنا لننتظر، فربما مسها رونالدو، ولم تظهر لنا الكاميرات ذلك، خصوصاً بعد أن رأينا احتفاله المبالغ بالهدف !!
لكن (المعلق المصري)، أدرك الخطأ بعد دقائق معدودة، وحاول بطريقة أو باخرى ان يصحح المعلومة باستحياء، فراح يقول تارة أن الهدف مشترك بينه وبين برونو ، وتارة يقول أن الأمر مشكوك فيه، رغم أنه متأكد من أن برونو سجل الهدف وليس رونالدو .. وقد رأى بعينيه أن اسم برونو قد وضع على لوحة الملعب، وتم تأكيد ذلك عبر الكاميرات، ومن خلال الزوايا كلها. فضلاً عن إن مراقبي (الفيفا)، سجلوا الهدف حالاً باسم اللاعب برونو في الموقع الرسمي للاتحاد الدولي لكرة القدم لكن معلقنا الهمام، راح يناور، و(يمطمط)، ولا يريد أن يعترف بكامل الحقيقة، خوفاً على اعصابه، واعصاب الاعلام القطري، واعصاب الجمهور العربي.
والسؤال الذي أطلقه أكثر من متابع ومراقب مفاده: كيف (يسرق) لاعب مثل رونالدو حق زميله في الفريق، وكيف تسول له نفسه أن يمثل الدور تمثيلاً احتفالياً كاملاً، بل وأن يصٌر على المضي في تمثيل الدور حتى بعد نهاية المباراة، وحتى بعد ان اوضحت الكاميرات بشكل مطلق حقيقة الأمر، لكنه ظل يواصل تمثيله بلا حياء ولا مسؤولية، فتراه يبتسم ببلاهة أمام الكاميرات تارة ويؤشر بيديه على شعر رأسه تارة أخرى، وكأن فريقه قد خسر المباراة، وأن الحكم لم يحتسب الهدف لفريقه، وليس أن فريقه قد فاز في المباراة، وحصد النقاط الثلاث، وأن الهدف سجل بإسم رفيقه -صاحب الهدف الشرعي-
ولعل الأغرب في القضية، أن رونالدو أقام الدنيا ولم يقعدها معترضاً، وهو الوحيد الذي يعرف أنه لم يسجل الهدف، ويعرف أكثر من أي شخص في الملعب، أنه لم يمس الكرة قطعاً، حتى لو شهدت له كل الكاميرات.
إن محاولة رونالدو إقناعنا بأن الكرة دخلت المرمى بعد أن مست شعر رأسه، هو أمر معيب، ومضحك، بل ومخجل أيضاً لنجم (كبير ) مثله !
مقابل هذه الصورة القاتمة لنجم كروي، نرى صورة مضيئة لنجم شاب لم يكن أبداً بحجم رونالدو، يرفض فيها تسلم جائزة احسن لاعب في المباراة، لأنه اعتقد ان لاعباً ما في فريق الخصم (وليس في فريقه)يستحق نيل هذه الجائزة!
إنها مقارنة موجعة حين تحصل بين لاعب (كبير) يسرق حق لاعب زميل له في نفس منتخبه الوطني، ولاعب آخر ينتصر لحق لاعب في فريق (خصم) على حساب حقه الشخصي، ثم يأتيك من يأتي ليقول لك (إنه كبير)!
إن تميز الشخص (الكبير) وفرادته، واستثنائيته تظهر في اللحظة الصعبة، إي في اللحظة التي يتطلب فيها الموقف، وإلاٌ لماذ يسمى كبيراً؟!
لقد كان المفروض باللاعب رونالدو أن يمضي نحو زميله (برونو)، ليهنئه ويعانقه ويبارك له هدفه، وسيكون (كبيراً) فعلاً لو توجه أيضاً الى الحكم، واخبره بالحقيقة.. ساعتها ستعترف الكرة الأرضية بكل ما فيها من مخلوقات وكائنات، وتقر بأن رونالدو لاعب كبير، وعظيم ايضاً، لكن المشكلة أن المواقف العظيمة لا يتخذها سوى الأشخاص العظام..!
ولعل المشكلة الأكبر تكمن في الاعلام العربي، المتحيز دائماً لمصلحة القوي، حتى لو كان هذا القوي بلا مروءة ! لقد رأينا كيف احتفل اعلاميو (بي ان سبورت)بكل (متملقيها المغاربة والمشارقة) مع رونالدو (بتسجيله) الهدف في مرمى الاورغواي، وحين اكتشفوا أن الهدف ليس لرونالدو ، وأن الرجل مثلٌ الدور عليهم، وعلى الدنيا كلها، صمتوا ولم ينتصروا لمهنيتهم، ولا للمبادئ الرياضية السامية التي تمرغ وجهها أمس، ولم ينطقوا بكلمة نقد بحق اللاعب (الممثل)، إنما راحوا يبررون له ذلك، فتارة يقول أحدهم: إن رونالدو أكبر من الهدف، وآخر يقول أنه مس الكرة بشعر رأسه، وثالث يقول أن الهدف مناصفة بينه وبين برونو فيرنانديز، وآخر قال: سيبقى رونالدو عظيماً سواء سجل الهدف بإسمه أو لم يسجل !
عجيب امر هذه الأمة، والأغرب، إعلامها الكارثي، الذي لايقيم للحق وزناً.
لقد أطلقوا أمس كل مفردات المديح لصالح رونالدو دون أن يعتذروا بكلمةواحدة الى المسكين برونو ، أو الى المشاهدين، عن السلوك غير المهني الذي سلكوه أمس، سواء تحيزاً لرونالدو أو خوفاً من شعبيته الكبيرة، متناغمين مع عبارة (الجمهور عاوز كده) سيئة الصيت !
لذا دعونا أن لا نصف أحداً في المستقبل، ب (الكبير) إلاٌ حين يكون كبيراً في الاداء والأخلاق، والموقف واللحظة الصعبة ..