الباحث المهندس الاستشاري :- حيدر عبد الجبار البطاط ..
في يناير ٢٠١٤ حصل حدث ملفت لنظر الصحافه العالمية وبالاخص الصحافة الامريكية ، ملخص هذا الخبر (أصبح كل نرويجي مليونيرا من الناحية الحسابية بفضل الثروات النفطية لبلاده)، وذلك بعد أن قفزت ودائع صندوق التقاعد الذي يمول من عائدات النفط والغاز النرويجية إلى مستوى قياسي بلغ 5.11 تريليون كورونا ، أي ما يعادل نحو 606 مليارات يورو، وتزيد قيمة الصندوق عن عدد سكان النرويج بأكثر من مليون مرة، حيث يبلغ عدد السكان 5.1 مليون نسمة، وهذا يعني ان نصيب كل فرد
نرويجي من اموال الصندوق يتجاوز المليون كورونا نرويجية .
-الذهب الأسود يقلب الموازين .
في أكتوبر/تشرين الأول 1962، كانت النرويج على موع ٍد مع مفاجأ ٍة ستقلب حسابات الدولة التي يبلغ عدد سكانها 3.6 مليون نسمة فقط آنذاك.
قدمت شركة فيليبس بتروليوم Phillips Petroleum الأمريكية طلبا للحكومة النرويجية لبدء عمليات التنقيب عن النفط في البحر. لم تتوقع النرويج في ذلك الوقت وجود النفط لديها أصلا، ولم تكن هناك هيكلية لتنظيم منح امتيازات النفط للشركات ال ُمنَ ِّق َبة، ولم تملك حتى حدودا بحرية واضحة مع جيرانها. كانت قيمة العرض ال ُمق َّدم من شركة فيليبس 160 ألف دولار تُدفع شهريا للدولة مقابل الحصول على رخصة للتنقيب. قرأت الحكومة في العرض محاولة للاستحواذ على حقوق التنقيب، لذا لم يكن من الوارد تسليم ال ُجرف القاري النرويجي بأكمله لشرك ٍة واحدة. فإذا كان عهد استكشاف النفط سيبدأ، فليتنافس المتنافسون. طلبت الحكومة النرويجية من شركة فيليبس الانتظار، وفي هذه الأثناء بدأت مفاوضاتها على حدودها البحرية مع جيرانها.
مقدمة
2
لكن حتى بعد ترسيم الحدود في عام 1965، كان من الأسهل اتباع خطوات الدنمارك على سبيل المثال، ومنح حقوق التنقيب لشرك ٍة أجنبية واحدة، لكن عندما اكتُ ِّش َف حقل إيكوفيسك الضخم في عام 1969، قررت النرويج أن تسلك الطريق الأطول ولكن الأضمن. لم تكن في عجل ٍة من أمرها لاستغلال الثروة المفاجئة، وقررت أن تفعل ذلك بشروطها الخاصة، وبما يخدم مصالح شعبها. كانت هذه النية حاسمة لدرجة أن مشروع القانون الذي أُ ِّق َّر بموافقة جميع الأحزاب السياسية حدد ما سماه “وصايا النفط العشرة”، قبل أن يتم تكريسه لاحقا فيما سيصبح “قانون البترول النرويجي”.
وبطبيعة الحال، كانت أولى الخطوات هي إنشاء شركة نفط خاضعة لسيطرة الدولة تسمى Statoil وذلك في عام 1972. ومع توفُّر الامتيازات البحرية الجديدة، ُمنحت Statoil بشكل تفضيلي أكبر حصص ملكية في أكثر المناطق الواعدة، كما أعفيت الشركة من المساهمة في تكاليف الاستكشاف، والتي ُم ِّولت من قبل الشركات الأجنبية الأخرى. طُلب من المستثمرين الأجانب إنشاء شركات فرعية مقرها النرويج، والتوافق مع لوائح العمل والسلامة النرويجية، وتدريب النرويجيين للتأكد من أن الدولة لا تعتمد تقنيا على الغرباء لتطوير مواردها. كما طُلب منهم استخدام مقاولين فرعيين نرويجيين وأحواض السفن المحلية حتى لو كانت مناقصاتهم أكثر تكلفة.
وربما الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو أن جزءا كبيرا من الفضل في النجاح الهائل الذي حققته النرويج في صندوقها النفطي يعود إلى عالم جيولوجي عراقي من مواليد البصرة.
تأسس “صندوق الثروة السيادية النرويجي” في عام 1990. أُطِّلق على الصندوق بداية اسم “صندوق البترول”، وفي عام 2006 استقبل تحويل أول عائدات نفطية،ثمأُعيدتتسميتهبصندوقالتقاعدالحكوميالعالمي(GPFG)-كما ُيعرفاليوم.
ويعد صندوق التقاعد النرويجي أكبر صندوق مالي تابع للدولة على مستوى العالم في الوقت الحاضر ، ويهدف للوفاء بمستحقات التقاعد الخاصة بالأجيال المقبلة في النرويج.
تبلغ قيمته السوقية حوالي 4600 مليار كورونا نرويجية (770 مليار دولار أمريكي) ، وهو ما يمثل حوالي 140 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للنرويج ، هذا ليس فقط نتيجة لمستويات عالية من
3
عائدات البترول ، ولكن أيضا نتيجة لحل يتم بموجبه توجيه الإيرادات الحكومية مباشرة إلى الصندوق واستثمارها في الخارج ، مع وجود قواعد واضحة لكيفية إعادة رأس المال إلى الاقتصاد النرويجي من خلال القرارات السياسية السنوية بشأن موازنة الميزانية الحكومية ، وما هو إلا العائد على الأموال التي يمكن استخدامها بهذه الطريقة ؛ رأس المال المستثمر غير متاح للاستهلاك ويجب أن يظل في
أسواق رأس المال العالمية.
كان للصندوق تأثير إيجابي في السماح للحكومة بإدارة الأصول والعائدات النفطية بشكل ُمستدام، مع إمكانية الادخار وحماية الثروة للأجيال القادمة.
جاء صندوق النفط كنقيض ، إلى حد ما رد فعل ، للطريقة التي تم إدارة صندوق التأمين الوطني بالنسبة لأولئك الذين يقومون بأعمال الأساس لصندوق النفط في الثمانينيات من القرن الماضي ، كان أحد المبادئ الأساسية هو تجنب الأخطاء التي ارتكبت في عام 1967 ، إما من خلال عدم إنشاء صندوق
على الإطلاق ، أو بجعله مختلفا عن سابقه قدر الإمكان .
استمرت السياسة المالية والمبادئ التوجيهية للاستثمار في التطور على مر السنين، إلى أن أصبح صندوق GPFG النرويجي حاليا أكبر صندوق من نوعه في العالم. أما الاختلاف الرئيسي بين صندوق التقاعد الحكومي النرويجي والصناديق المماثلة الأخرى فهو أنه يحول الأصول النفطية بشكل فعال إلى محفظة استثمارية على المدى الطويل ولا ينفق شيئا منها، بمعنى آخر: يدير الأموال بانتظام عبر الاستثمار عالميا. يستفيد من عوائد الاستثمار بدلا من الممارسة الشائعة المتمثلة في إنفاق قيمة الأصول بحد ذاتها.
لذا، فهو بمثابة أداة لإدارة التحديات المالية للشيخوخة السكانية والانخفاض المتوقع في الإيرادات البترولية.
ويمكن تلخيص الهدفين الرئيسيين لصندوق التقاعد الحكومي العالمي GPFG على الشكل التالي: أولا: دعم الإدارة في إنفاق عائدات الحكومة من احتياطيات النفط، وبهذا المعنى يساعد الصندوق الحكومة على حماية الاقتصاد النرويجي والحفاظ على قيمة الأصول النفطية للأجيال القادمة.
4
ثانيا: توجيه المدخرات لتمويل نفقات التقاعد للمواطنين.
أدرك النرويجيون منذ البداية القيمة الحقيقية لهذه الثروة؛ لذا حرصوا كل الحرص على عدم إدخالها في ساحة التنازع السياسي على السلطة تحت مظلة “صندوق التقاعد الحكومي”. أما عائدات استثماره، فيتم ضخها عبر الإنفاق الحكومي لتعزيز الثروة المجتمعية في النرويج في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. وإذا كانت النرويج سادس أسعد دولة على وجه الأرض في يومنا هذا، فإن الفضل يعود أيضا إلى أنظمة الرعاية والتعليم والصحة الممولة جيدا، التي جعلت نصيب الفرد من الناتج المحلي حوالي 69 ألف دولار سنويا، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي. منذ تأسيس الصندوق عام 1990، تعاقبت الحكومات بأهوائها اليمينية واليسارية والنيوليبرالية، ومع ذلك دعمت الإدارات المختلفة مبادئ الصندوق وقواعده التي لا خلاف بشأنها. وخوفا من “لعنة النفط”، واجه صناع القرار النرويجي العديد من اللحظات المفصلية حول فائدة وتأثير أي قرار على المدى الطويل. والآن بعد مرور نحو أكثر من 50 عاما على استخراج أول قطرة نفط، تعتبر النرويج مثالا يحتذى في الإدارة الفعالة لموارد الطاقة؛ ومع ذلك، فقد وضع الاحتباس الحراري هذه السمعة على المحك.
ورغم تمتع النرويج بثروة نفطية ضخمة تجعلها سابع مصدر للنفط في العالم، إلا أن وزيرة المالية النرويجية “سف ينسين” ترى أن ضرورة الصندوق تكمن في حماية الأجيال من تقلبات أسعار النفط والطاقة في العالم.
خاتمة
الثروة الهائلة التي حققتها النرويج حتى الآن، تواجه من جديد اختبارا عنوانه “مصلحة الأجيال القادمة”، فهل تستكمل استخراج موارد الطاقة الطبيعية وتعظيم قيمتها المالية رغم تعهدها بتقليل انبعاثات الكربون وفق اتفاقية باريس عام 2016، أم تُبقي النفط والغاز في باطن الأرض لتتخذ الأجيال
المستقبلية قرارا بشأنهما عندما يحين الأوان.
5