بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لا يختلف العراقيون عن بقية شعوب الأرض في طبيعة تأييدهم وولائهم أو في اختلافاتهم التي تصل احياناً حد الانقسام.. وأقصد هنا الانقسام في الرياضة او الفن، أو حتى في السياسة.. فهم مثل جمهور الآخرين ينقسمون في حبهم بين هذا النادي وذاك، وبين هذا المغني وذاك المغني، أو بين هذا اللاعب النجم وغريمه النجم الآخر.. وغالباً ما يكون بين هذا الحزب ومنافسه الحزب الآخر، بل وصل الامر الى أن يختلف بعض الجمهور العراقي حول المذيع الأفضل، والمذيعة الأحلى !
وفي عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان الجمهور الرياضي العراقي يتقسم في ولائه الشديد لفريقي القوة الجوية والفرقة الثالثة، ثم لفريقي الزوراء والشرطة، واحياناً لفريقي
الميناء والطلبة، وبقدر ما كان تنافس الجمهور العراقي على تشجيع الاندية العراقية كبيراً، كانت حصة تشجيعه للأندية العربية والأجنبية، صفراً، أو لنقل إن جمهور الأندية الأجنبية في العراق كان قليلاً جداً، بحيث لا يشكل تياراً تنافسياً يمكن رؤيته، أو التعرف على أثره.
أما في مجال الفن، فقد كان العكس صحيحاً تماماً إذ لم يكن للفن العراقي روابط علنية تناصر هذا المطرب العراقي أو ذاك، ولا ثمة جمعيات داعمة ومؤيدة لهذه الفرقة أو لتلك، كما هو الحال مع الفن العربي، بمطربيه، وممثليه، الذي توفر على روابط كثيرة لأنصار مطربيه، كعبد الحليم حافظ، الذي تنتشر في بغداد ومحافظات العراق روابط انصاره ومحبيه .
وفي بغداد كانت (موجة) أفلام السينما الأجنبية – الهندية والامريكية والفرنسية- تكاد تتفوق على جميع الموجات الأخرى في البحر العراقي، ومع هذه السينما، انتشرت شعبياً، مفردات وتفاصيل افلامها، من موسيقى وغناء، الى رقص، بل وحتى حفظ بعض كلمات أغاني الأفلام.. ورغم أني لم أكن من جمهور السينما والغناء الهندي، إلا أني أتذكر كلمات لأغنية 🙁 منكى جمنا بول رادا بول سنجم هوجا هيما كا) للمطرب الهندي المعروف راچ كومار ! وهناك شباب عراقيون يحفظون اغنيات هندية كثيرة عن ظهر قلب، والشيء نفسه بالنسبة لسينما هوليود، ونجومها، لا سيما الفنان الأمريكي، ملك ( الروك إند رول ) اللامع، الفيس بريسلي، ذلك النجم الذي كان أغلب جمهوره العراقي من مناطق واحياء بغداد البارزة كالمنصور والكرادة والاعظمية وغيرها..
لكن ما رأيكم، لو قلت لكم إن جمهور الفيس بريسلي في مدينة الثورة كان يفوق بعدده، عدد جمهوره في مناطق بغداد!.
أنا أتحدث هنا عن تجربة شخصية، وليس عن طريق النقل أو السماع ..
فقد كنت قد انتبهت لمبدع الروك إند رول الفيس بريسلي وأنا في الخامسة عشر من عمري، أي في عام 1966، وقد كان شباب وفتيان قطاعنا ( 43 ) في مدينة الثورة، رغم الفقر والعوز، يتابعون بامتياز ما يدور في عالم السينما، والصرعات الجديدة في العالم، سواء بموديلات الملابس، أو في قصات الشعر، أو غير ذلك من الموضات الجنونية.. حتى أن شباب مناطق بغداد كانوا ينتظرون ما يصدر عن أبناء مدينة الثورة، وما يظهرونه من موديلات جديدة في خياطة القمصان والبدلات، وقصات الشعر الحديثة، ليقلدوها في اليوم الثاني، ويفعلوا مثلها تماماً دون أية إضافة وتغيير .. وبلغة الحاضر، فقد كان أبناء مناطق بغداد يفعلون : ( كوبي + بيست ) على موضاتنا وقصات شعرنا !
وعودة لما ذكرته قبل قليل، فقد كان الشارع العراقي منذ منتصف الستينيات وحتى نهاية السبعينيات يميل الى الفن العربي والاجنبي كثيراً، فهو يتابع الأغنية والسينما العربية، والرقص الشرقي، وكل ما يتبع الفنون العربية من مسرحيات ومسلسلات واوبريتات.. بحيث كان فرسان عموم الفن العربي أمثال عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحرم فؤاد، وأم كلثوم ونجاة الصغيرة وفائزة أحمد وصباح.. وكذلك رشدي أباظة وعماد حمدي وكمال الشناوي واسماعيل ياسين وفريد شوقي، وعمر الشريف، وشكري سرحان، وفاتن حمامة وشادية ونادية لطفي وسامية جمال وسعاد حسني، ومديحة كامل، وفؤاد المهندس وشويكار وعبد المنعم مدبولي وسهير البابلي، وغيرهم من نجوم الفن العربي، يحظون بشعبية واعجاب كبير في الأوساط العراقية .. والشيء نفسه حصل مع نجوم الفن الأجنبي، فقد كان جمهوره في العراق كبيراً، لكنه منقسم بين لونين مختلفين فنياً: أحدهما مفتون بالأغاني والموسيقى والرقص الهندي، والآخر – وعدده أقل، كان مغرماً بالسينما الغربية، فضلاً عن اعجابه الشديد برقص وموسيقى وفتنة الفيس بريسلي.
وكان جمهور مدينة الثورة الشبابي منقسماً بين مناصرة الفن الهندي بممثله الكبير شامي كابور، واخيه الأكبر المطرب راج كابور، وبين الفن الغربي المتمثل بسينما هوليود، ونجمتها الفاتنة مارلين مونرو – رغم رحيلها عام 1962، وموسيقى الروك، بنجمها الفذ الفيس بريسلي.
وكان قطاعنا – 43 – بؤرة هذا التنافس، فقد كان الفتى (خماس) يقود جمهور الفن الهندي، بينما كنت أتزعم (مجموعة) الفيس بريسلي، ولعل الامر الذي جعلنا في موقف تنافسي افضل، ان تسعين في المئة من جمهور (شامي كابور) كان في مستوى ثقافي وتعليمي متواضع، بينما كان اغلبنا طلاباً في المراحل الثانوية والمتوسطة، وبعضنا قد انهى الثانوية، كما كنا أكثر من الفريق المنافس ثقافة وأناقة وحتى وسامة .
وأذكر عندما مات ألفيس بريسلي في العام 1977 كنت في تلك الليلة الصيفية من شهر آب في بيتنا – وقد كان عمري وقتها 26 عاماً، وطبعاً فقد كان اغلب اصدقائي بنفس عمري، أو ما يقاربه، وكانوا خلال تلك السنوات قد تفرقوا في مناطق بعيدة، ومشاغل عديدة، لكن موت الفيس أعادنا الى قطاعنا بدون موعد ولا اتفاق، لقد عدنا في اليوم الثاني من رحيل الفيس الى تلك البيئة المفعمة بمشاعر الود والحنين والبهجة والى ذلك المزاج الرائق الحلو، الذي كنا فيه قبل سنوات، فكان من الطبيعي هنا أن نقيم مجلس فاتحة على روح الفيس الجميلة، وفي مقهى ابو حازم التاريخية ذاتها دون غيرها.. فوقفت في صدارة مجلس العزاء، استقبل المعزين واتقبل مواساتهم.. والغريب، أن يأتي الكثير من الأشخاص، وهم يقدمون لي العزاء ولا يعرفون من المتوفى الذي جاؤوا يعزون بوفاته !