بقلم : فالح حسون الدراجي ..
لم أكن أعرف عن الزعيم النازي هتلر كما أعرف عنه اليوم، فقد كنت أعرف أنه مجرد مجرم حرب ألماني مجنون، أشعل حرباً كونية مدمرة راح ضحيتها عشرات الملايين من العسكريين والمدنيين، ثم انتهى مهزوماً، منتحراً.. وانتهت الحدوتة!
لكن قراءتي قبل سنة، لكتاب (كفاحي) الذي دوّن فيه هتلر مذكراته، جعلني أعرفه أكثر من غيري، بل واكرهه أكثر من غيري بكثير .. ولعل الانطباعات التي يتركها هتلر في مذكراته لدى كل من يقرؤها، تختلف عن الانطباعات التي يتركها غيره من السياسيين والقادة الذين ينشرون مذكراتهم عبر مراحل التاريخ.. إذ في كثير من الأحيان قد تجد نفسك متعاطفاً مع هذا السياسي أو ذاك القائد العسكري، وأنت تتعمق في قراءة مذكراته، أو قد تجد المبرر له وتعذره بعد أن يشرح لك مسوغات الخطأ، أو المغامرة، أو حتى الجريمة التي ارتكبها في مرحلة من مراحل حياته، وقد وجدت – على سبيل المثال لا الحصر- مثل تلك المبررات فعلاً في مذكرات السادات التي نشرها في كتاب (البحث عن الذات)، رغم علمي أن السادات كان يكذب كثيراً في مذكراته، لكنك لن تكرهه حين تقرؤها إن لم تتعاطف معه على الأقل !
أما هتلر، فهو الزعيم الوحيد الذي تكرهه رغماً عن أنفك، منذ الصفحة الأولى من كتاب مذكراته، وتزداد كرهاً له، كلما تقرأ صفحة جديدة، وحين تصل الصفحة الأخيرة من (كفاحي)، ستجد نفسك في أقصى نقطة من نقاط المسافة الفاصلة بينك وبين هذا الكائن الفظيع، حتى تشعر أنك من كوكب، و(هتلر) من كوكب آخر.. !
بعد قراءة كتاب ( كفاحي) صرت ألاحق كل ما يتعلق بشخصيته العجيبة والغريبة، وأسعى للوصول الى أشياء جديدة لم أكن أعرفها من قبل .. ولن يهمني – من أجل إثراء خزينتي المعرفية الخاصة به- أن أبحث في الكتب، وكل المذكرات المتعلقة بهتلر، أو أن أفتش في ما يقع بيدي من الافلام الوثائقية الحربية، والسينمائية، وأنبش في الحكايات والمعلومات والأسرار والآراء والمواقف وهدفي من ذلك، البحث عن السبب الحقيقي الذي يدفع (إنساناً) سوياً كاملاً، الى السعي الدؤوب،
و(النضال) المرير من أجل إبادة البشرية، بحيث لن يهدأ له بال حتى ينجح في مسعاه، ويتمكن من إزهاق أرواح سبعين مليون بريء من مختلف الأجناس والأقوام والأديان، كان من بينهم عشرة ملايين مواطن ألماني، جميعهم من العرق الآري (الصافي) .
ولا أكشف سراً لو قلت بأني شعرت بالخوف والرعب عقب كل صفحة من صفحات كتاب (كفاحي)، وحين أنهيت قراءة صفحات الكتاب، أحسست بوجع وألم في قلبي، لقد كان ألماً وخوفاً ورعباً شاملاً سيطر على تفكيري ومشاعري وعقلي ولعل سبب هذا الخوف، يعود لاعتقادي بأن البيئة التي أنتجت هتلر قبل قرن تقريباً، قادرة على إنتاج هتلر 2، وهتلر 3، أو أن تعيد على الأقل إنتاج مجنون ثان لا يقل جنوناً واجراماً عن أدولف هتلر !
لقد اهتز قلبي خوفاً على أبنائي وأحفادي، وعلى أبناء بلدي، وجلدتي، وعلى الانسانية عموماً، وأنا أرى هتلر يعلن دون تحفظ عن مشروعه العنصري النازي، كاشفاً عن كراهيته، واحتقاره لكل الأجناس والأعراق البشرية – باستثناء عرقه الآري طبعاً- لذلك لم يرف له جفن قط وهو يقتل سبعين مليون نفس بشرية لا ذنب لها، سوى أنها من شعوب وأقوام وعروق وأديان أخرى .. !
لقد كنت أسأل نفسي وأنا أقرأ كتاب”كفاحي” واقول: ماذا لو كررت النازية، أو أي بيئة أخرى تشبهها، إنتاج هتلر آخر، ومن يعرف متى وأين ستحل الكارثة، وكم من الملايين سيكون ثمنها الدامي ؟!
لذلك صرت أدعو وأتمنى صادقاً أن تقرأ البشرية بكل أجناسها والوانها وطبقاتها كتاب هتلر (كفاحي)، رغم أنه يحتوي على كم كبير من الأوهام والافتراءات والادعاءات والأكاذيب الهتلرية، لكن ثمة وقائع وأفعالاً وأقوالاً عديدة تكشف عن خطورة المشروع الهتلري النازي، وما دعوتي لقراءته إلا لقناعتي بأن معرفة سلوك وعقل وتفكير المجرم قد يسهم في (تطعيم) الناس ضد هذا الفايروس المدمر ويصل بهم الى ما وصلت اليه من قناعة وشعور بأن عودة هتلر للميدان مرة أخرى، تعني مقتل نصف البشرية على الأقل، وإبادة الحياة في الكرة الأرضية.. فمثلاً هل تصدقون ان لدى هتلر كتيبة نازية شعبية – غير الجيش النظامي – أشبه (بالجيش الشعبي) تضم ثلاثة ملايين سفاح، وضع هتلر في لائحة القبول شرطاً أساسياً اسمه: (عديم الرحمة) ! أي أن يكون المتقدم للانتساب عديم الرحمة ! ولكم أن تقدروا ماذا فعلت هذه الكتيبة بالمعارضين الألمان !
لذلك، فإني أرى أن عودة هتلر وموسوليني وفرانكو، وبينوشيه، وصدام حسين وانتيبفلتش وعيدي أمين، وبقية مجرمي العصر، ليس أمراً مستحيلاً في ظل تناسل البيئات المنتجة للطغاة، وشيوع الأفكار اليمينية، والعقائد القومية المتطرفة، ناهيك من توفر التربة الملائمة لمثل هذا البذار المسموم .
ولعل من المفيد ذكره، أني- شخصياً- انتبهت لخطورة النازية، منذ شهر أيلول من عام 1975، حين أقيم مهرجان غنائي عالمي بمناسبة الذكرى الثلاثين للانتصار على الفاشية ودخول الدبابات السوفيتية ملجأ هتلر وانتحاره في (برلين)، وقد كتبت أغنية في هذه المناسبة بعنوان (سوفيتات)، لحنها الفنان الكبير كمال السيد، قدمت من قبل فرقة الطريق.. حيث تقول مقدمتها: (غنت الفقره ورادت سوفيتات.. كلمة ويه دمهم دارت .. سوفيتات .. بگلوب عمالنا .. واجيالنا وآمالنا .. يعلن نجوم السوفيات .. سوفيتات .. سوفيتات .. “. وقد شارك في تسجيلها عدد من الأصوات الغنائية المقتدرة مثل فؤاد سالم وفلاح صبار وغيرهما.. واعتقد أن الكثير من المناضلين الشيوعيين الذين أقاموا في عدن ودمشق بعد مغادرتهم العراق، يعرفون هذه الأغنية جيداً، رغم أنها من أغاني المناسبات.
لقد أردت أن أقول، إن خوفي من عودة هتلر أمر يتجدد في عقلي وقلبي.. وهنا أتذكر جلسة جمعتني قبل أكثر من ربع قرن، مع صديقين مثقفين عراقيين في مقهى (السنترال) في عمان، وكان أحد هذين الصديقين علمانياً متصلباً في رأيه، خصوصاً بنظرته للخلق، والتكوين، في حين كان الآخر اسلامياً (يابساً)، لايقل تشدداً عن العلماني في فكره وحكمه وقناعاته العقائدية.. ولأني لا أحبذ الدخول في أي نقاش يتعلق بالخليقة والخالق، والتكوين، ولا أسمح لنفسي الانجرار الى أي اشتباك نقاشي يدور بين طرفين متخالفين، تكون قاعدته أو جوهره : (الخلق والخالق)، فقد حاولت في تلك اللحظة ان لا أسمع نقاشهما العقيم، رغم ارتفاع نبرة صوتيهما، لكن الصديقين طلبا مني، بل ألحّا عليّ أن احكم بينهما.. والموضوع كان سؤالاً (اشكالوياً) طرحه الصديق العلماني مفاده: لماذا خلق الله هتلر ، وصدام حسين وامثالهما، ماداموا يقتلون الانسان الذي خلقه الله، وأحبه وجعله مثل صورته؟
فأجابه الصديق الاسلامي قائلاً: كي يتعظ الناس ويعرفوا طريق الإيمان والخير والصلاح، فيسلكوه ويبتعدوا عن طريق الشر والمعاصي .. لذلك خلق البلاء المتمثل بصور هتلر وصدام وغيرهما.. إن الله أراد أن يمتحن خلقه بهذا البلاء! لكن العلماني قاطعه قائلاً: طيب، لماذا يصيب الله، الأطفال الأبرياء بمرض السرطان، فيعانون حتى الموت، أهو امتحان لهم أيضاً؟!
وقبل أن يتطور الموضوع، نهضت مغادراً تعبيراً عن رفضي لهذا الحوار الخطير، وأنا أقول: السفاح هتلر، والقاتل صدام، هما صناعة بشرية، بريء منها الله، فلا تتعاركا!