بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
عرف العالم المستشارة (أنجيلا ميركل) بسترتها وبنطالها وحذاءها المسطح، ربما تغيرت ألوان ملابسها بتغير المواسم والمناسبات، لكنها ظلت تتمسك بالزي نفسه. والنوعية نفسها، والرتابة نفسها، والمقاييس نفسها، وتسريحة الشعر نفسها، وذلك على مدى سنوات ترأسها لأكبر قوة إقتصادية في القارة العجوز. .
امتدت رئاستها إلى 16 عاماً. لكنها لم تكسر قيود هذه الرتابة إلا بمناسبة واحدة فقط، وهي المناسبة التي شاركت فيها باحتفالات مهرجان الموسيقى السنوي بمدينة بايرويت، حين ارتدت فستاناً عنابياً جميلاً سارت به فوق السجاد الأحمر. .
توالت عليها الأسئلة عن مظهرها النمطي المتكرر، فقالت: (مهمتي هي خدمة الشعب الألماني، وليست تقديم عروض الأزياء)، وكان واضحاً انها لا يعنيها لفت أنظار الناس. بقدر ما يعنيها الالتفات إلى ما تفعله بحكم الواجبات الثقيلة المنوطة بها. .
كانت ترفض الاناقة المفرطة، والازياء الفاخرة، وترفض الظهور بمظهر المرأة الاستعراضية المتبخترة، بل كانت لا تهتم باختيار الألوان، ولا بالتنسيق بين البنطال والسترة، ولا تضع المكياج، ولا تؤمن بالجراحة التجميلية. .
هكذا تربعت على قمة الادارة العليا في بلدها، وهكذا غادرت منصبها، لتعود إلى ممارسة حياتها كأي أمرأة ريفية بسيطة لا تحب البهرجة، ولا تتعالى على غيرها، وظلت تعيش بشقتها الصغيرة وسط العاصمة برلين. تنزل إلى السوق وتختار ما تحتاجه من خضار وطعام، وأحيانا تتحدث مع جيرانها عن الطقس، وكيفية اختيار الازهار، وقص حشيش الحديقة والعناية بها. .
دخلت ميركل معترك السياسة في لحظة فاصلة من تاريخ ألمانيا، وهي سقوط جدار برلين عام 1990 الذي نشأت وترعرعت خلفه. إلى أن استلمت السلطة بعد (كول) لتصبح أول سيدة تتولى رئاسة الحكومة منذ تأسيس ألمانيا ما بعد هتلر عام 1949. .
كانت بملابسها البسيطة أكثر وقاراً وكياسة من نساء الرؤساء والملوك والأمراء. قال لها احد المصورين: أذكر انني التقطت لك صورة بنفس الفستان قبل عشرة أعوام. فضحكت وقالت له: نعم هذا صحيح، فالإنسان يُعرف بجوهره لا بمظهره. ولا يسمو السياسي بلونه، ولا بطوله، ولا بماله، ولا بمظهره، ولا بسلطانه، وانما بسلوكه وحكمته وتفانيه من أجل وطنه. .
مشكلتنا في العالم العربي اننا نعيش مع سياسيين تتغير ميولهم وتوجهاتهم وألوانهم، وتتغير اشكالهم واحجامهم، تماما كما الاميبا Amoeba من حيث الشكل، أو كما الحرباوات من حيث اللون. ولديهم ملامح زئبقية مائعة وبراقة. وقديما قال سيد البلغاء:-
ولا خير في ود امرئ متلونٍ
إذا الريح مالت مال حيث تميلُ
فمن مبادئ السياسة التي نؤمن بها: الثبات على الاهداف والمبادئ، ورفض التلون والتملق والتزلف، ورفض الوقوف على الأبواب بانتظار الاستحواذ على الغنائم. .
منذ سنوات والساحات العربية تصدح باصوات المداحين: (بالروح بالدم نفديك يا زعيم)، بصرف النظر عن نياشين الزعيم وملابسه الحربية وقبضته الفولاذية. لكننا لم نسمع مواطناً ألمانياً واحداً هتف (بالروح بالدم نفديك يا ميركل) على الرغم من بساطتها وتواضعها وعدالتها وحكمتها ومواقفها السياسية الثابتة. وأجمل ما قالته: (لا تعني الحرية أن تتحرر من شيء ما، بل أن تكون حراً في فعل شيء ما). . .