بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
مدينة مغربية حملت اسم البصرة، وتدعى أيضاً (البصرة الحمراء), و(البصرة الكتان). واحدة من أهم المدن خلال الفترة الإدريسية. لكنها اندرست وضاعت معالمها، قبل أن تكتشف من جديد في ثمانينات القرن الماضي. .
كانت متوسطة المساحة. وتحيط بها أسوار عالية, مدعمة بأبراج شبه دائرية. ولها عشرة أبواب. وتقع على طريق سوق الأربعاء بإتجاه (وزان). وتبعد عن مدينة (القصر الكبير) بحوالي 20 كيلومتراً نحو الجنوب, وعن المحيط الأطلسي بحوالي 40 كيلومتراً. وكانت مركزاً لإقامة أمراء الأدارسة. ثم أصبحت عاصمة للدولة الادريسية. وتوسعت حتى امتدت من الريف إلى (غمارة). وتعرضت اسوارها للهجوم والتدمير على يد (أبو الفتوح يوسف زيري) عام 979 ميلادية. لكنها انتعشت زراعياً وصناعياً بعد ذلك الهجوم. حتى تحولت إلى مركز تجاري واقتصادي مزدهر في القرن الحادي عشر الميلادي, واشتهرت بزراعة القطن, والصناعة, وإنتاج الكتان. .
ثم أخذت تفقد اهميتها شيئا فشيئا. وتدهورت أحوالها في القرون اللاحقة . ونشب فيها الخراب, وزال أثرها تدريجيا. .
ومازالت ذاكرة التاريخ تحتفظ بين طياتها بمشاهد رائعة عن تلك المدينة وعلاقاتها العميقة مع بلاد الرافدين. فقد كانت للمغرب روابط اقتصادية قوية بالبصرة الفيحاء. ولعب ميناء الأبلة دوراً تجارياً هاماً في القرون الغابرة. وكانت موانئ البصرة تستورد المنتجات من الصين, والهند, وجزر الملايو، ثم تنتقل منها إلى بلاد الشام وفارس والجزيرة العربية ومصر. ومن ثم إلى المغرب العربي فأوربا. وتصل إليه البضائع الأوربية, وبضائع المغرب العربي عبر الطريق نفسه. ثم تشحن من موانئ البصرة العراقية إلى الهند والصين عن طريق البحر. .
لقد ساهم موقع البصرة المغربية في ظهور مدن وموانئ تجارية شمال افريقيا. وأصبحت التجارة عماد نشاطاتها في ذلك الزمان. وربما تركت عمليات التبادل التجاري بصماتها على مدينة (سجلماسة), التي كانت من أشهر محطات الصحراء الكبرى, ومركزاً للقوافل التجارية. .
ولو أمعنا النظر في أسماء القبائل المغربية لوجدنا إنها مطابقة تماماً للكثير من القبائل الموجودة في المشرق العربي. بل ان بعض العوائل التي هاجرت من العراق, واستقرت في المغرب مازالت تتفاخر بألقابها المرتبطة بالعراق. مثل : لقب (العراقي), و(البغدادي). وهكذا بالنسبة للعوائل المغربية التي هاجرت إلى المشرق, والتي مازالت تصر على التباهي بلقب (المغربي), و(الإدريسي). .
اللافت للنظر. ان معظم الفرق والمذاهب العقائدية والفقهية, التي تأسست في البصرة العراقية, وجدت لها ملاذاً ومستقراً وانتشاراً في المغرب. فانتقل الخوارج, ومن ثم المعتزلة إلى هناك. فانتقلت (الاباضية) من البصرة إلى بواسطة (سلمة بن سعد). وانتقلت (الصفرية) إلى هناك بواسطة (عكرمة مولى ابن عبّاس). فهبت على المغرب رياح الصراعات المذهبية, التي انطلقت من ضفاف شط العرب, واستقر بها النوى في مراكش وضواحيها. والعجيب بالأمر ان تناقضات تلك الكيانات المذهبية والسياسية اسهم في التطور العمراني, والإزدهار الإقتصادي. لأنها كرست اهتماماتها في توفير الأمن للمراكز التجارية. والاستفادة منها في تعزيز قوتها السياسية, وتمويل مشاريعها التوسعية. فتحوّل المغرب العربي من طور العمران البدوي التقليدي إلى مرحلة العمران الحضري المتجدد. ومن المحتمل ان تكون البصرة المغربية من إفرازات تلك التطورات العمرانية. .
وهناك من يرى ان رجال البصرة, الذين شاركوا في طليعة الفتوحات الإسلامية, وكانت لهم مكانة مرموقة بين المجاهدين, هم الذين أطلقوا اسم (البصرة) على تلك المدينة المغربية. وأطلقوا الاسم نفسه على مدينة أخرى في شبه القارة الهندية. تيمنا بمدينتهم التي فارقوها, وشغفوا بعشقها.
ولا عجب في ذلك. فالبصرة تفرض محبتها على أهلها, وعلى الذين استوطنوا فيها, أو تعلموا فيها, أو تعاملوا معها. .
وهناك الكثير من اسماء المدن والمواقع العربية الجديدة, التي تتطابق مسمياتها الحديثة مع المسميات القديمة,على الرغم من تباعد المسافات بينها. فمدينة الجبل الأخضر في المغرب, تقابلها مدينة الجبل الأخضر على ساحل سلطنة عمان. ومدينة (الفاو) الواقعة على ضفاف شط العرب, تقابلها مدينة (الفاو) وسط صحراء الجزيرة العربية. وتناظرها مدينة (الفاو) القبطية في مصر. ونرى من المفيد الإشارة إلى مدينة (طرابلس) في لبنان, وشقيقتها (طرابلس) في ليبيا. لذا فإن هذا التشابه في اسماء المدن والمواقع لم يأت عن طريق الصدفة. ولابد أن تكون له أسبابه, ومبرراته. وأحيانا يعزا هذا التشابه إلى نشاطات دينية, أو علمية, أو سياسية, أو تجارية. ولابد أن يكون أحدها أصل الإنتشار. وربما يكون عشق المهاجرين للمدينة, التي نشأوا فيها. هو الذي دفعهم إلى نقل اسمها ومعالمها معهم. وقد اجتمعت هذه الأسباب كلها في البصرة المغربية, فحملت اسم البصرة العراقية, وتميزت به.
ختاما نقول ان خارطة الوطن العربي كانت تزينها البصرة العراقية في الشرق، وتناظرها مدينة البصرة المغربية في الغرب في إطار عربي جميل ويبعث على الفخر والاعتزاز. . .