بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
كانت بساتين النخيل تزين ضفاف شط العرب بكثافة مليونية على امتداد 140 كيلومترا من رأس البيشة إلى ميناء المعقل. وما ان اندلعت الحرب الكارثية بين العراق وإيران سنة 1980 حتى توجهت آليات الجهد الهندسي لتنفيذ أحكام الإعدام الجماعي ضد كل نخلة سامقة في بساتين البصرة. بدأوا مجزرتهم بقطع رؤوس النخيل تعبيرا عن نزعتهم الهمجية في انتهاك المقومات البيئية. ثم اقتلعوا الجذوع من جذورها في حملات التجريف الشامل، ورموها في أماكن بعيدة، وردموا الجداول والسواقي، حتى تصحرت الضفاف تماماً، وتحولت إلى ساحة مفتوحة لتبادل قذائف الهاونات. ثم عاد الجهد الهندسي مرة أخرى لينبش الأرض ويبني الملاجئ الخرسانية. .
كان منظر غابات النخيل قبل الحرب يبهر العقول، ويشد أنظار العاملين على السفن الأجنبية القادمة والمغادرة، حيث تنساب السفن وتتهادى بين منعطفات الممر المائي. .
اللافت للنظر ان إيران لم تضحي بنخلة واحدة من نخيلها، وبامكانك ان ترى التناقض بين الضفتين. إحداهما صحراء جرداء قاحلة ليس فيها نبتة واحدة، والاخرى خضراء يانعة مزدهرة تزدحم بأغنى غابات النخيل، وترتوي من ترعة بهمنشير العذبة بينما ترمي فضلاتها (مياه البزل) في شط العرب، فأصبح نهر شط العرب بوجهين: وجه يعبر عن النضارة والحيوية، ووجه يعبر عن الخسارة والخذلان. .
وجاء في الحديث: أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين، الذي خلق منه آدم وليس شيء من الشجر يلقح غيرها. .
ليس بالضرورة ان تكون عميلاً لتخدم أهداف عدوك، يكفي أن تكون غبياً لتؤدي الدور نفسه، وهكذا جاءت السلطات الغبية لتقضي على بساتين النخيل، وتمارس هوايتها في الابادة والاجتثاث، ثم تحول النهر نفسه إلى مستودع للنفايات والملوثات والأملاح. . .