بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
هذه حكاية واقعية من حكايات الأهوار، بطلها صبي قوي البنية صلب العود من فتيان البو محمد اسمه (علي). .
نشأ (علي) محروماً من حنان الأم. ترعرع في بيئة فقيرة قاسية، حيث الأهوار ومتاهاتها المائية الغامضة، وغاباتها القصبية الكثيفة. لكنه كان أنموذجاً استثنائياً في الصبر والتحمل وفي المواقف الصعبة، وكان قريباً من رجال القرية الذين تربطهم به أواصر العمومة. يساعدهم في أعمالهم اليومية. يذهب معهم في رحلات الصيد، وأحياناً يدفع معهم القارب، ويشاركهم في نشاطاتهم المعتادة. كان يتظاهر أمامهم بالقوة والفتوة واليقظة، لكنه كان يشعر بفقدان الاهتمام. .
رافقهم كعادته في يوم من الأيام إلى بقعة عميقة معروفة بغزارة اسماكها. فنشروا شباكهم هناك قبل مغيب الشمس، ثم هموا بالرجوع إلى قريتهم بذريعة تناول العشاء، تاركين الفتى (علي) وحده في المكان الذي نصبوا فيه شباكهم. قالوا له: أنهم سيعودون بعد قليل ويجلبوا له عشاءه. فلم يكن له أي خيار سوى تصديقهم والاقتناع بكلامهم. فأبدى بعض الشجاعة في الصمود ومواجهة الأخطار . .
تركوه وحده ورحلوا، ثم خيم الظلام وسط هذه المتاهات المخيفة، كان شارد الذهن. يلتفت يميناً وشمالاً، يفزعه نقيق الضفادع، وتخيفه قفزات الأسماك بين أعواد البردي، وترعبه الأصداء القادمة من بعيد. أصوات يختلط فيها العويل والنواح، وتتراءى له عيون الجنيات تتربص به بين عيدان القصب. ظل الليل كله يجفل من كل حركة حوله. يذرف الدموع من دون ان يدري. لم يكن يشعر بالجوع، ولم تكن لديه أي رغبة بالنوم. بدا واضحاً ان القوم تجاهلوه وغدروا به، فتركوه وحده هناك في مواجهة الاهوال المحتملة. .
تسارعت دقات قلبه، كانت أصابعه ترتجف من البرد والخوف والجوع والألم. امضى وطراً من الليل وسط الوساوس والهواجس. تداهمه الظنون وتخنقه الأجواء المخيفة، كان يهتز خوفاً من سماع صرصرة حشرات الظلام، وبطبطة طيور الوز المهاجر. .
هناك من يراقبه خلسة ويزحف ورائه، وأحيانا يهمس في إذنه. كان يكلم نفسه فيقول: كلا هذا خيال. لكنه كان يشعر بشيء يلاحقه، ويتبع خطواته ويقترب منه. كان يسمع صوتاً خافتاً يهمس من خلفه. يخاطبه قائلاً: أنت أنت يا (علي) أنتظر قليلاً، سوف تفترسك جنيات الهور، فلم تستطع قدماه أن تحملانه من شدة الخوف. .
نظر إلى السماء المتلالئة بالنجوم. تقوقع في مكانه. وأوشك قلبه ان يتوقف. وبينما كان جسده يرتجف، التفت إلى الخلف ببطء من شدة القلق. نظر بأطراف عينه اليمنى، فلمح شيئاً يقفز في الماء ويختفي وراء حزمة البردي، ثوانٍ من الصمت كان يُخير فيها نفسه بين المكوث في مكانه، أو البحث خلف كومة البردي ليرى مصدر الصوت. ثم رأى رداءً أبيضاً يرفرف في الهواء. يظهر ويختفي خلف جذع شجرة محترقة تختبىء وراءها الأشباح. .
ظل (علي) يذود وحده ويقاوم ويقاوم حتى طلوع الفجر. كان ضياء الفجر هو المنقذ من هذا الكابوس المخيف. وكانت الشباك ممتلئة بالأسماك. .
كان (علي) ينتظر ابناء عمومته الذين عادوا بوجوههم الغادرة، وقلوبهم المتحجرة، وابتساماتهم الماكرة، ليجدوه صامداً جلداً يقظاً كما الأسد في عرينه. كان واضحا انه انتصر عليهم كلهم، ونجح في أصعب الاختبارات. .
بعد عشرات الأعوام صار هذا الفتى رمزاً وقدوة للقبيلة كلها. وقد منحه الله السعادة والطمانينة وراحة البال. . .