بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
تبقى اللصوصية من السلوكيات الدونية التي يزدريها الناس، وتبقى السرقة حرفة معيبة مشينة مكللة بالعار والقّبح في كل زمان ومكان. لكن بعض اللصوص تميزوا عن أقرانهم بنبلهم وشهامتهم ومواقفهم الوطنية والأخلاقية. وقد نقلت لنا الشفاهيات الشعبية وصية اللص (أدهم من عسقلة) الذي كان اشهرهم في العاصمة العباسية (بغداد). جاء في وصيته وهو على فراش الموت: (لا تسرقوا امرأة، ولاجاراً، ولانبيلاً، ولا فقيراً، وإذا سرقتم بيتاً فاسرقوا نصفه، واتركوا النصف الآخر ليعتاش عليه أهله، ولا تكونوا مع الأنذال). .
وظهر في القرن الماضي نشّالاً في ضواحي البصرة، عرفه الناس باسم (قدوري)، وكان من صنف اللصوص الاشقياء المعروفين بالقوة والجرأة. .
قبل بضعة أيام شاهدت لقاءً مصوراً مع الناشط البصري الغيور: (العم أبو علي) يتحدث فيه عن موقف لا يُنسى من مواقف النشّال (قدوري). .
يقول ابو علي: كان قدوري لا يتردد من ممارسة هوايته في الاستيلاء على العملات الورقية التي يحملها كبار الأفندية اثناء تنقلهم في الاسواق وأزقتها المزدحمة. . وفي يوم من الأيام قرر الاستحواذ على محفظة ممتلئة بالنقود يحملها احد الموظفين، فخطفها (قدوري) بلمح البصر. لكنه فوجئ عندما فتحها، انها تحتوي على تقارير طبية، وان صاحبها من المعلمين المصابين بمرض عضال، وفيها أيضاً توصية من مديرية التربية والتعليم تقضي بتوفير المبالغ المالية لهذا المعلم المريض من أجل تغطية نفقات علاجه خارج العراق. فانتفض قدوري على الفور، وتبنى بنفسه حملة التبرعات، حتى جمع أضعاف أضعاف المبلغ المطلوب. وتوجه بنفسه إلى المدرسة التي يعمل فيها ذلك المعلم، فقبل المعلم اعتذاره، وأستلم منه المبلغ وسط جمع غفير من وجهاء المدينة الذين استحسنوا موقف قدوري وأشادوا به. .
تذكرت حكاية العم (ابو علي) عن قدوري النشّال عندما سمعت خبر انقلاب الشاحنة المليئة بالأموال على الطريق العام (بين كركوك والسليمانية) في الوقت الذي انكرت فيه حكومة الاقليم عائديتها. وتذكرت أيضاً المليارات التي سُرقت من الأمانات الضريبية في بغداد بعلم المؤسسات الحكومية. وشتان ما بين مواقف النشّالة في القرن الماضي ومواقف النشّالة في المرحلة الراهنة. واترك لكم حرية الغوص في بحار التناقضات والمقارنات المفزعة بين جمال الماضي وقبح الحاضر. .