بقلم: فالح حسون الدراجي ..
تلقيت أمس رسالة من احد (الأشقاء) العرب، يعقب فيها على مقالي المنشور يوم الخميس الماضي بعنوان: ماذا سيقول (السيد) في خطابه غداً؟..
وقد تعرضت في هذه الرسالة لعدد من الشتائم الشخصية، والكثير من الاتهامات التي وجهها هذا (الشقيق) الى الشعب العراقي.. وأكثر ما أغضبني قوله: انتم العراقيون
” ……… ” لا تحبون فلسطين، ولم تقدموا لها شيئاً سوى الكلام الفاضي، والوعود والخطابات والأناشيد، ولم تطلقوا على اسرائيل غير صواريخ بلاستيكية فالصو …. الخ من الكلام الخريط ..!
لذلك فقد قررت تجاوزه، وأن لا أرد عليه، لكنني وجدت أن من المفيد نشر بعض رسالته هنا، وأرد عليها هنا أيضاً، لكي يطلع العراقيون على ما يفكر به بعض العرب تجاهنا.. كما بعثت اليه (بسطرين تلاثة)، قلت فيها: ( أنت معتوه، تتحدث خارج التاريخ والعقل والمنطق والوقائع ولا تستحق الرد قطعاً.. اما تلك الصواريخ العراقية البلاستيكية التي أطلقت على اسرائيل وتعيرنا بها، فهي ليست صواريخنا، إنما صواريخ (حبيبكم)، الذي ترفعون صوره في الشوارع والبيوت.. بطل الحفرة صدام حسين ..) !
انتهت رسالتي للمفتري (العربي) .. والآن دعوني أوضح حقيقة المواقف العراقية التاريخية تجاه فلسطين، وما أذكره هنا ليس أكثر من قطرة من بحر تلك المواقف الباهرة. لذلك سأختار موقفين فقط، أحدهما للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، وهو يمثل الجندية العراقية، والثاني لفتى لم يصل عمره السابعة عشرة وهو يمثل المواطنين العراقيين المدنيين، علماً ان نهر المواقف العراقية الكريمة تجاه فلسطين وشعبها لم يتوقف حتى كتابة هذا المقال.. الموقف الاول ذلك الذي تترجمه (مقبرة الشهداء) العراقيين في قرية (عسكر البلد) شرق نابلس، والتي تضم رفات 220 شهيداً من أبطال الجيش العراقي الذين سقطوا دفاعاً عن الاراضي العربية خلال حرب فلسطين، لاسيما يوم السابع من حزيران سنة 1948، وكذلك رفات الشهداء العراقيين ال 56 الذين سقطوا سنة 1949 ودفنوا في مقبرة شهداء الجيش العراقي في قرية قباطية في جنين، حيث يتحدث الفلسطينيون أنفسهم عن الصورة المشرقة الراكزة في ذهن ثوار فلسطين، والتي بدأت قبل حرب فلسطين عام 1948 بسنوات وبالتحديد سنة 1936، حينما أبدى شعب العراق في عهد الملك غازي تآخيه مع الشعب الفلسطيني، فتطوع العراقيون للجهاد في فلسطين، وحضروا فعلاً ورابطوا في قرية بلعا وخاضوا معارك بطولية، لهجت بها الألسن، وزغردت نساء فلسطين لبطولات العراقيين ..
أما الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه، فلهم مآثر خالدة سجلها التاريخ بحروف من نور، وحفظها الشعب الفلسطيني جيلاً بعد جيل. بحيث يروي الباحثون الفلسطينيون وليس غيرهم أن (المقدم الركن) عبد الكريم قاسم نقل في 20 آب 1948 الى منصب آمر الفوج الاول من اللواء الاول الموجود في فلسطين آنذاك.. وتشاء الصدف أن يهجم العدو الصهيوني على مواضع (كفر قاسم) بالمدرعات والمشاة، وباسناد ناري كثيف، وتمكنت من التقدم كثيراً. لكن في اليوم الذي التحق فيه (قاسم) إلى منصبه الجديد.. – وكان جنوده ورفاقه يلقبونه (أبو دعير) – تسلم المهمة حالاً، خاصة بعد احتلال قوات العدو لـ( بيارة المختار )، وابنية المعسكر البريطاني الشمالية، فقام بهجوم مقابل سريع استمر حتى الساعة الخامسة من صباح يوم 21 آب، نجح فيه بطرد العدو والسيطرة على الموقف واسترجاع أبنية المعسكر البريطاني الشمالية وبيارة المختار والتلول الواقعة في جنوب كفر قاسم، ولم يخسر فوج قاسم سوى أربعة جرحى من المراتب، وقد تحول لقب عبد الكريم – بعد المعركة – من ( أبو دعير) الى بطل (كفر قاسم)..وما يؤكد قولنا، هو ذلك النصب التذكاري التاريخي للشهداء العراقيين الذي يتوسط المقبرة، وهو على شكل مسلة بطول مترين ونصف المتر، ومكتوب على واجهته الامامية :
شهداء جحفل الملكة عالية، من أبطال الجيش العراقي في معركة جنين بتاريخ 3 حزيران 1948، وعلى الجهة الأخرى وضع شعار الدولة العراقية ..
وبعد تلك المآثر والامجاد العراقية في فلسطين، يتواصل طريق البطولات، دون قطع أو انقطاع، فاختار موقفاً عظيماً آخر، يبدأ عندي من عام 1967، وتحديداً بعد نكسة 5 حزيران، حيث تعلن (حركة فتح) الفلسطينية عن فتح أبوابها لتطوع المواطنين العرب دفاعاً عن فلسطين.
في ذلك الوقت كنت أسكن في قطاع 43 في مدينة الثورة، وكان أخي وصديقي فاضل عبود يسكن في قطاع ( 44 ) المجاور لقطاعنا.. ولأني وصديقي فاضل كنا مولعين بكرة القدم، فقد كنت أذهب لبيته أحياناً، ويأتي هو الى بيتنا أحياناً.. لنمضي سوياً الى ملعب (فيوري) الذي يقع مقابل قطاعينا، لاسيما وقد كنا -أنا وفاضل- نلعب معاً في فريق اتحاد فيوري ومن ثم في فريق اتحاد الثورة، وفي فريق السكك أيضاً حين أصبح عمرنا 18 سنة.. وقد كان من الطبيعي أن يتعرف فاضل على أغلب اصدقائي، واتعرف على أصدقائه .. وبهذه الطريقة التقيت بفتى اسمه (سعيد جميل الأسدي) الذي كان يسكن قطاع 44، وبيته يقع مقابل بيت فاضل تماماً، (باب مقابل باب) .. وشيئاً فشيئاً صار سعيد صديقي بخاصة وأنه فتى خلوق جداً ووديع ولطيف.
ولأنه فقير مثلنا، ومن أبناء الصرائف أيضاً (المبزرة والعاصمة)، فقد نشأت بيننا علاقة وألفة أخوية.. لكن، فجأة، قرر سعيد الانخراط في العمل الفدائي الفلسطيني، والتوجه الى الاردن بعد أن سمحت حكومة الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف بفتح الحدود أمام الراغبين بالتطوع لمقاتلة الكيان الصهيوني، وعبثاً حاولنا ثنيه عن قراره لكنه أصر على التطوع والذهاب الى فلسطين، وهو لم يصل السابعة عشرة من عمره.. وكم دهشنا حين وجدناه فخوراً وفرحاً لكون اسمه ضمن أول عشرة اسماء عراقية تتطوع للعمل الفدائي الفلسطيني.. وهكذا ذهب سعيد.. وانقطعت اخباره عني، لكن فاضل كان متواصلاً معه عن طريق الأسرة، وكان يخبرني باستمرار عن بطولات سعيد والعمليات التي ينفذها في الأرض المحتلة .. كما أخبرني مرة أن سعيد اشترك في معارك كبيرة، من بينها معركة الكرامة الشهيرة عام 1968، والتي حقق فيها الفدائيون نصراً عظيماً على الصهاينة، أسهمت في رفع معنويات العرب المنهارة بعد نكسة حزيران عام 1967، وبسبب هذه البطولات تقدم سعيد في تراتبية المواقع الفدائية حتى أصبح رقماً في المعادلة الفدائية، رغم صغر سنه ..
لكن الأقدار أوقعته بيد الاسرائيليين وهو ينفذ مع رفاقه عملية بطولية في عمق اسرائيل، فحكم عليه بالسجن عشرين عاماً، قضى عشرة أعوام منها في سجن (عسقلان) الاسرائيلي، ليطلق سراحه بعدها في صفقة تبادل برفقة عدد من السجناء والأسرى الفلسطينيين .. ولم ينكسر سعيد قط، بل واصل نضاله في صفوف العمل الفلسطيني حتى مغادرة منظمة التحرير بيروت، ليعود الى العراق حزيناً بائساً.. وللأمانة فإن سعيد لم ينس أصدقاءه، إذ كان يتواصل مع فاضل وكان يبعث له رسائل منتظمة حتى حين كان سجيناً في (عسقلان)، كما انهما التقيا بعد عودته الى العراق مرات عديدة.
وأمس اخبرني فاضل، أن (سعيد) يعيش الآن في العراق حيث يعمل ويكدح لأجل لقمة العيش، لكن قلبه يحترق حزناً على ما يجري في قطاع غزة، وعينه ترنو نحو فلسطين والى ذلك القطاع الذي كان يسطر الملاحم والبطولات الفذة فيه، متمنياً العودة الى غزة كي يقاتل الصهاينة مرة ثانية.. رغم أن الرجل أصبح في الثالثة والسبعين من العمر ..!
تحدثت عن موقفين فقط ولم اتحدث عن بطولات اليساريين العراقيين في فلسطين وهي لا تعد ولا تحصى.. إذاً ، هؤلاء هم العراقيون ..!